فلنبدأ بالإمتاع والمؤانسة، على طريقة أبي حيّان التوحيدي، حتى وإن كانت الحكاية والنهاية أشد سواداً من جناح الغراب: في العام 1997 نشر مارك سينغر، في مجلة نيويوركر الأميركية، تحقيقاً عن دونالد ترامب.
وبعد هذا التاريخ بثماني سنوات نشر التحقيق نفسه كفصل في كتاب نال مراجعة إيجابية، على صفحات نيويورك تايمز ريفيو أوف بوكس. وهذا ليس بالقليل.
والمهم، أن ترامب، الذي لم يعجبه التحقيق، وأغاظته المراجعة، رد برسالة غاضبة يبدو أن ما فيها من شتائم كان كافياً لإثارة اهتمام القرّاء، فازدادت مبيعات الكتاب. للرد على الشتائم، وبقدر واضح من اللؤم والسخرية، كتب سينغر رسالة إلى ترامب وشكره على إسهامه، من حيث لا يشاء، في ازدياد مبيعات الكتاب، وتعبيراً عن امتنانه وضع في المظروف، مع الرسالة، شيكاً بمبلغ سبعة وثلاثين دولاراً واثنين وثمانين سنتاً.
والمهم، عادت الرسالة، بعد أيام، بالبريد إلى مُرسلها، مع شتائم من ترامب، ولكن دون الشيك. وعندما فحص سينغر حسابه، في البنك، اتضح أن الأخ ترامب صرف المبلغ.
كان ما تقدّم جزءاً من نوادر أوردها سينغر في كتاب بعنوان «ترامب وأنا» صدر في العام الماضي، قبل فوز ترامب في السباق الرئاسي، كتحذير للأميركيين من مخاطر وصول شخص كهذا إلى البيت الأبيض.
ومع ذلك، الأخ ترامب فاز ووصل. وثمة ما يبرر القول إن في وصوله ما يمثل تهديداً لا لمستقبل أميركا كقوّة عظمى وحسب، بل ومستقبل النظام العالمي، والعلاقات الدولية، أيضاً. وبهذا نكون قد خرجنا من طور الإمتاع والمؤانسة، إلى طور الهم، وما يُذهب النوم، ويجلب الغم.
كثيرون في العالم، ومنهم كاتب هذه السطور، مَنْ لا يعنيهم بقاء أميركا كقوّة عظمى. وقد يتنفس البعض الصعداء لأن الإمبراطورية الأميركية في طور الأفول.
وليست هذه هي المسألة، ففي سياق صعود القوى الكبرى وهبوطها ما يمس العالم، ويغيّر من بنيته، أيضاً. فلا قوّة تصعد أو تهبط بلا دوي تُسمع أصداؤه في كل مكان، خاصة اليوم، في القرية الكونية الصغيرة.
لم تصبح أميركا قوّة عظمى لأنها دخلت القرن العشرين بأقوى قاعدة صناعية، وآلة عسكرية وحسب، ولكن بمبادئ ويلسون، أيضاً، والديمقراطية الليبرالية، وهوليوود، والجامعات، والفردية، والمبادرة والابتكارات.
وبعد الحرب العالمية الثانية بمشروع مارشال، وأسطورة العالم الحر، وحقوق الإنسان. وإذا كان من الممكن نقض هذا كله بأمثلة لا تحصى عن انتهاك حقوق الآخرين، وسرقتهم، وعن العدوانية، والكيل بمكيالين، إلا أن هذا لا ينفي أن كل ما يمكن نقضه كان ورقة توت ضرورية، ربما صدقت حيناً، أو تسبب وجودها في خجل صانعي السياسة الأميركية أنفسهم في حين آخر. وعلى خلفية كهذه تتضح المشكلة مع الأخ ترامب، الذي لم يعد حريصاً حتى على ورقة التوت.
فلنتأمل ما يلي: قبل أيام قليلة، لم تسقط بعد من الذاكرة، قال الأخ ترامب، بكلمات فصيحة وصريحة ومليحة، إن قطر ترعى وتموّل الإرهاب. وبعد أيام أقل باع القطريين طائرات مقاتلة بمبلغ 12 مليار دولار، وبعد الأقل من الأيام بأيام أقل أجرت البحرية الأميركية مناورات مشتركة مع «البحرية» القطرية.
بالمنطق: لا يمكن بيع أحد يرعى ويُموّل الإرهاب أسلحة، ولا يجوز إجراء مناورات عسكرية معه (يعني بالعربي الفصيح حمايته)، ويصعب في الحالتين، أيضاً، التفكير أن يحدث هذا كله خلال أيام، ومع ذلك فإن فيه ما يعيد التذكير بشتم سينغر، وسحب سبعة وثلاثين دولاراً من حسابه الخاص.
وإذا جاز التفكير في أمر كهذا كطرفة سقيمة الذوق لأميركي قبل الرئاسة، فلا يجوز التقليل من خطورته كسابقة في العلاقات الدولية لأميركي بعد الرئاسة: يمكن لدول شراء الحماية الأميركية بالمال، بصرف النظر عن أنظمتها السياسية، وسياستها الخارجية، حتى وإن رعت وموّلت إرهابيين، وألحقت الضرر بآخرين، أو أسهمت في قتل أميركيين.
ألا يُحرّض سلوك كهذا على أسئلة من نوع: هل يمكن لأحد أن يثق في كلام، أو صدق، أو نوايا، حاكم القوّة العظمى الأهم في العالم؟ ألا تُوجّر القوّة الأميركية لصاحب أعلى العطاءات؟ وما الفرق بينها وبين جيوش المرتزقة؟ ألا يحق لباقي دول العالم أن تحتذي بالنموذج الترامبي، وتسير على منواله، يهدد الكبير الصغير، ويشتري الصغير، إن استطاع، سلامته بالمال؟ ألا يذكرنا هذا بتوماس هوبس واللفياثان؟
في الإجابات المُحتملة عن أسئلة كهذه ما يهدد سلام وسلامة العالم. البعض، خاصة في العالم العربي، يقول إن ترامب يحصل منّا على الجزية. بيد أن ثمة ما هو أبعد من العرب، وأموالهم، التي لا تساوي، ولا هم، شيئاً في ميزان القوى العالمي. فالسياسة، علاوة على كونها علوماً ومدارس ونظريات واجتهادات يُمارسها ويَدرسها الناس على مدار قرون، هي، أيضاً، صور، ورموز، وأخيلة، واستيهامات، وتمثيلات، تتجلى في سردية ما (narrative).
تراوح السردية عموماً بين جذرين هما «ساس» العربية، وأصلها تربية والاعتناء بالدواب، وتدبير وتصريف أمور الناس، و»بوليتيكوس» اللاتينية، المنحوتة من الإغريقية، وتنطوي على دلالة عن، ومن أجل، وما يتصل بالمواطنين، والقانون العام، والمدينة/الدولة.
نشأت بين الحدين، على مدار قرون، أمثلة وتمثيلات لا تحصى لوكيل العناية الإلهية، والراعي الصالح، والمستبد العادل.
ومع أواخر القرن الثامن عشر، هيمنت على السردية، وصعدت فيها وبها، صور وتمثيلات جديدة للساسة والسياسة، عاش بهما وعليهما القرنان التاسع عشر والعشرون، وفي بيئتها نشأت قيم الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والسلم في العلاقات الدولية. لم يكن الأمر مثالياً دائماً، ولكن الأخ ترامب يُفسد هذا كله الآن.
بالصور : بفضل هالاند.. مانشستر سيتي يفسد مفاجأة برينتفورد
15 سبتمبر 2024