في لقاء في الناصرة، في نهاية الاسبوع الماضي، ضمّني مع الصديقين: نظير مجلّي ومحمود شواهدة (ابو الشّهد)، اذهلني محمود، ونحن نناقش اوضاعنا العامة، عندما قال: ان الاقل اهمية وخطرا علينا، هو التفوق العسكري الاسرائيلي، ذلك ان الاسرائيليين يتفوقون على الفلسطينيين والعرب في العلوم والفنون واتقان لغة العصر، (بما هي لغة التقدم العلمي والتقنيات الحديثة والمستحدثة والاختراعات الجديدة المذهلة، كما على اصعدة الفن والادب والثقافة والاقتصاد)، والمساهمة الفاعلة في تطويرها واغنائها، وجني ثمارها طبعا.
ظلت كلمات محمود شواهدة تجول في خاطري، وتشغل ذهني، على مدى ايام عديدة تالية، والى ان بدأتُ يوم الثلاثاء الماضي، بمتابعة ما امكن من كلمات ومناقشات في «مؤتمر هرتسيليا» الاخير، وخطر في بالي ان أُجري مقارنة بين عقد هذا المؤتمر الاسرائيلي لدورته السابعة عشرة، وبين ما هو الحال عندنا.
الاسم الرسمي الكامل لهذا المؤتمر هو: «مؤتمر هرتسيليا لميزان المناعة (المتانة) والامن القومي». هذا المؤتمر السنوي بادر إلى تنظيمه وعقده عوزي آراد، الضابط السابق في الموساد الاسرائيلي، والمستشار السياسي السابق لرئيس حكومة اسرائيل، بنيامين نتنياهو، في العام 2000. ويرعى دورات هذا المؤتمر مركز اكاديمي وبحثي، هو «مركز هرتسيليا للتخصصات المتعددة»، وتشارك فيه النخب السياسية والعسكرية والفكرية والثقافية والاكاديمية والاقتصادية والاجتماعية الاسرائيلية، مع استضافة شخصيات عالمية، من اوروبا وأمريكا خاصة، ذات اختصاص في المجالات المذكورة، وعلى اطلاع ومتابعة للاحداث والتطورات الاستراتيجية في العالم.
تتم في دورات هذا المؤتمر، (على مدى ثلاثة ايام في الغالب)، مناقشات معمّقة لكل ما له علاقة بالامن القومي لاسرائيل، والمخاطر التي تحيط باسرائيل من الداخل ودول الجوار والاقليم والعالم، واقتراح استراتيجيات وحلول لمواجهتها. ثم يشرف «مركز هرتسيليا للتخصصات المتعددة»، على تبويب وطباعة هذه المناقشات والمداخلات وتعميمها على مراكز صنع القرار في اسرائيل، للاستنارة بها باعتبارها اساسا وخلفية علمية متينة يمكن، ويتوجب، الاستفادة منها. وكل ذلك بهدف تعزيز «مناعة» المجتمع، وحماية الامن القومي الاسرائيلي.
كانت الدولة الاولى التي اعتمدت اسلوب عقد مؤتمر سنوي للنُّخب فيها، من كافة التخصصات ذات الابعاد الاستراتيجية، هي هولندا، وذلك قبل نحو ثلاثين سنة. وفي حينه، تولى ملك هولندا الدعوة لاول مؤتمر.
بعد المؤتمر الثاني في هولندا، انتشر هذا التقليد في العديد من الدول، وعقد الاستاذ الراحل محمد حسنين هيكل مؤتمرين في مصر، على ما اذكر، ولكنه لم يترسخ كتقليد دائم وثابت.
اما عندنا في فلسطين، فقد بادر ثلاثة اشخاص: د. رياض المالكي، وزير خارجية فلسطين حاليا، والراحل ممدوح نوفل، والسفير السابق داوود بركات، في العام 2003، إلى عقد «مؤتمر رام الله الاول»، تحت عنوان «عشر سنوات على اتفاقية اوسلو»، وتم تمويله من الاتحاد الاوروبي واسبانيا، عندما كان السيد موراتينوس الاسباني مندوب الاتحاد الاوروبي في فلسطين. نجح مؤتمر رام الله «الأول» بشكل لافت من حيث الحضور والمشاركات والاوراق المقدمة والمداخلات. إلا انه لم ينجح في ان يصبح تقليدا فلسطينيا سنويا، ولم يعقد بعده، حتى الآن، «مؤتمر رام الله الثاني».
هل لي، في هذا السياق، دعوة أي جهة فلسطينية قادرة، إلى المبادرة لعقد مؤتمرسنوي على غرار مؤتمر هرتسيليا الذي ينعقد للمرة السابعة عشرة، دون انقطاع، منذ العام 2000 حتى الآن؟.
في هذا السياق ايضا: هل يكون دور الفلسطينيين، في كل دورة يعقدها مؤتمر هرتسيليا، هي مناقشة «لا لمشاركة مسؤولين فلسطينيين في مؤتمرهرتسيليا»، او نعم للمشاركة؟ مع ما يتخلل ذلك من بيانات وتصريحات وانتقادات تلامس الاتهام بالخيانة الوطنية. ثم: ما هو الضرر في اعلان موقف فلسطيني وطني صريح، من على أي منبر كان، حتى وان كان صهيونيا؟. يفترض العقل السليم ان يرفض أي موقع صهيوني ان يكون منبرا تُعلن منه كلمة فلسطين.
كل موضوع مؤتمرات هرتسليا السبعة عشر حتى الآن، في مقابل «مؤتمر رام الله الأول والأخير»، ليس إلا مثالا واحدا على الحجم الهائل من تفوق الأداء الاسرائيلي على الأداء الفلسطيني. وهذا التفوق يمكن ان يتم تجاوزه بقرار من أي من المؤسسات الفلسطينية السياسية او الاقتصادية او الأكاديمية.
اليس بالإمكان مثلا ان تبادر جامعة مثل جامعة بير زيت او غيرها إلى تنظيم مؤتمر نوعي سنوي، تضع فيه نُخَب فلسطينية وعربية واجنبية، امام الفلسطينيين بشكل عام، وامام المكلفين بالمسؤوليات الوطنية بشكل خاص، بدائل وخيارات تتعاطى مع المتغيرات والتطورات، وتعديل السياسة بما تستلزمه معالجة هذه المتغيرات وكل ما يستجد.
في ضوء ما هي عليه حال منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية من ترهل، وانشغال الحركات والجبهات والفصائل الفلسطينية جميعها بمعاركها الصغيرة، والمناكفات المخجلة بين قياداتها ورموزها، فان النُّخب الفلسطينية الاهلية، واولها الجامعات، مطالبة بان تتولى زمام المبادرة، لسد العجز قدر الامكان، والسعي لتقويم الاعوجاج في الحالة الفلسطينية المحزنة.
لا اعتقد بوجود عقبات او صعوبات كبيرة، امام أي واحدة من الجامعات او المعاهد الكاديمية الفلسطينية، في تأمين التغطية المالية لعقد مؤتمر فلسطيني سنوي نوعي، (بتكلفة لا تزيد عن نصف مليون دولار، في تقديري)، يضع امام القيادة الفلسطينية بدائل وخيارات، ويرسم لها خطوطا وخرائط وتصورات، تساعد وتساهم في إخراج الشعب الفلسطيني من الحالية المزرية، التي نعاني منها جميعا.
التفوق الاسرائيلي على الفلسطينيين، وعلى جميع الدول العربية، لا يقتصر على الصعيد العسكري فقط. بل، وكما لاحظ محمود شواهدة، هو الاقل اهمية، او من بين الاقل اهمية، على اقل تقدير، ولو اقتصر التفوق الاسرائيلي علينا جميعا على الصعيد العسكري، لأمكن معالجة الامر بيسر وسهولة، ولما كان عذابنا بالاحتلال والاستعمار طال على مدى هذه العقود. هكذا تعلمنا من التاريخ. نظرة سريعة على تاريخ المغول والتتار، من جنكيز خان وحتى هولاكو، الاشهر بين احفاده، تعلمنا ان القوة العسكرية منفردة لا تشكل ضمانة لدوام الانتصار. وهكذا هو حال الصليبيين حينما كانوا يمتلكون قوة عسكرية جبّارة، ولكنهم غارقون في تخلف عصور الظلام في اوروبا. فالانتصار لا يتم بدون قوة عسكرية، ولكنه يبقى انتصارا مؤقتا، ما لا يصحبه تفوق على الخصم والعدو في كل الميادين الاخرى: ميادين العلم والادب والثقافة والانسجام والتكامل بين فئات المجتمع وطوائفه، وما يتماشى مع روح العصر من قيم ومبادئ، واهمها في عصرنا هو الحكم الرشيد والديموقراطية، ولعل انهيار الاتحاد السوفياتي، رغم ضخامة ترسانته العسكرية والنووية، هو الدليل الاوضح على ذلك.
يبقى هنا التأكيد ان تغيير ما نحن فيه ممكن تماما. لكنه مشروط بامور عديدة، اولها، دون منافس، هو التركيز على التعليم والتعليم والتعليم، لإنشاء جيل يتقن علوم العصر، لينافس وليساهم بجدارة، في عالم يشهد قفزات غير مسبوقة، وبوتيرة غير مسبوقة ايضا، وليس على الصعيد التقني فقط، بل يتعداه ليشمل كل مناحي الحياة دون استثناء.
اليأس مريح. اما التفاؤل والامل فمتعب، لأنه يستدعي العمل بجدية، بذل جهود مضنية، بتوجيه عقل سليم يضمن المستقبل لشعبنا
عن القدس العربي