م
لا أعرف غازي السعدي، الذي رحل عن الدُنيا، إلا من خلال نتاج دار الجليل للنشر والدراسات والأبحاث الفلسطينية، وأعتقد أن السعدي ممن مضوا دون أن نتمكن من معرفة دوره. هو جزء من تجربة متشعبة، قد يراها البعض على هامش الثورة الفلسطينية، مع أنّها في صلبها ومن أنصع صفحاتها.
للكتاب والنشرات دور كبير في التجربة الفلسطينية، ما يزال ينتظر الكشف والتوثيق.
يقول أحد الشبّان، عندما أنهيت دراستي في الخارج مطلع التسعينيات، وأردت العودة لفلسطين، أعطاني مسؤول فصيلي في الجامعة، نشرة عن كيفية التعامل مع التحقيق على الجسر. أذكر أنّها تضمنت الا أجزع إن كان لديهم معلومات عني، وأن أتوقع مفاجآت، مثل أن يحققوا معي، أو لا يحققوا، ثم وعندما أركب السيارة للذهاب لبيتي، أن يأتوا بشكل عاصف لإنزالي من السيارة والتحقيق معي مجدداً. وبالفعل بعد جلسة تحقيق مطولة عن حياتي الجامعية، وما فعلته أثناء الدراسة، اكتشفتُ فيها أنهم لا يعرفون شيئا عني، أخرجوني وتوقعت أن يقولوا لي غادر، لأجدهم يقولون انتظر، لأدخل غرفة جديدة ويضعوني وسط ثلاثة محققين شكلوا حولي مثلثاً، يراقبون تعابير وجهي، وكل نفس أتنفسه، ويعودون لسؤالي كل شيء سألوني إياه ليروا اذا كنت سأنسى أو أغير أمراً، فأكون قد كذبت، ويقول لولا النشرة لارتبكت.
عندما وصلتُ فلسطين عام 1991، في زيارة، أعطاني صديق كتابين كانا يوزعان سراً؛ الأول، بألوان باهتة، عن فتاة اسمها أسماء، غررت بها عميلة للاحتلال، تعمل مع عميل أوقعوا به منذ سن 12، وكيف قامت الفتاة بعد تصويرها نائمة عارية، وابتزازها بقتل العميل والانتحار وكتابة رسالة تكشف ما حصل معه، والهدف من الكتاب التوعية من وسائل الإسقاط. والكتاب الثاني عن سيرة الشهيد خليل الوزير.
لا علاقة مباشرة لهذه الكتب بدار الجليل، في عمّان، ولكنها جزء من منظومة نشر وتعبئة، كان يشرف عليها الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد)، وكان غازي السعدي أحد مفاتيحها. فهو أصلاً من عكا، ومن أوائل الفدائيين، اعتقل وسجن وأبعد بعد سبع سنوات ونصف من السجن، للأردن، وفكّر بإيجاد مركز دراسات عن الشؤون الإسرائيلية، وكان له ذلك بدعم الوزير. ولكن الدار، التي كانت تحتل جزءا من مبنى رخامي أحمر في شارع الصحافة، وكان لها مكتبة للبيع في جبل الحسين، وكنت أفضل شراء الكتب والمجلات من تلك المكتبة حتى لو وجدت في مكان آخر، ففيها كأنك تدخل الجليل وفلسطين. كان هناك جزء مهم من إصدارات الدار؛ ترجمات من الإسرائيلية، وبعضها الآخر دراسات فلسطينية. وبعضها روايات، ولعل إحدى الروايات تلخص وتكشف جزءا من ماهية الدار. ففي العام 1983، مثلا، نُشرَت رواية الأسير فاضل يونس، الزنزانة رقم 7، كان قد جرى تهريب الرواية التي تلخص تجربة الأسر، على أوراق متناثرة، وأحياناً كتبت بسن كبريت بعد حرقه لعدم وجود أقلام، لتصل خليل الوزير، ليدفع بها للنشر.
يصعب تخيل جيل الانتفاضة في الثمانينيات، ومن ضمنه مروان برغوثي، وغيره، دون الربط بينه وكتابات خالد الحسن، عضو اللجنة المركزيّة لحركة "فتح"، ومنظرّها حينها، خصوصاً ضد الانشقاق المدعوم من سورية، وكتبه التي حملت عنوانا واحدا بأرقام متسلسلة هو "فلسطينيات"، والتي كانت تصدرها "الجليل"، وما تزال مهمة حتى اليوم. وبالتوازي مع الجليل كان هناك في عمّان دار نشر توأم للجليل، لا أعرف ملابساتها، ولكن منشوراتها كانت تؤدي ذات الغرض تقريباً، هي "دار الكرمل"، بقيادة خليل السواحري.
لاحقاً أخبرني كُتّاب وباحثون من الداخل كيف كانوا يعدون تقارير ودراسات عن الوضع الإسرائيلي والفلسطيني، ويرسلونها لخليل الوزير، بناء على طلبه، عن طريق "الجليل"، وأخبروني دعمه لمنشوراتهم في الداخل.
أحد الصحفيين من حملة الجنسية الأجنبية، يقول كيف كلفه الوزير بتأسيس مؤسسة صحافية في فلسطين، وأعطاه عناوين أشخاص في مختلف المناطق، اتصل بهم بكلمة سر، كانوا يرسلون تقاريرهم للمؤسسة كأنها تغطيات إخبارية، ولكنها كانت تقارير تلخص وترسل يومياً لرقم فاكس في أوروبا، للقائمين عليه معرفة أين يوجد أبو جهاد، فيصله التقرير يومياً فيبقى على اتصال مع كل الأرض المحتلة.
هناك صفحات مضيئة تلفها العتمة في هذه المسيرة.
عن الغد الاردني