هل هو «يوم القدس» أم انّه «يوم خطف القدس»؟ سقطت القدس مرتين، الاولى عندما احتلتها إسرائيل في يونيو 1967، والثانية مع اعلان ايران، بعد نجاح الثورة على الشاه وقيام «الجمهورية الإسلامية»، عن «يوم القدس» الذي قرّر الزعيم الايراني آية الله الخميني ان يكون في يوم الجمعة الأخير من شهر رمضان. لم يتحقّق منذ ذلك اليوم ايّ تقدم على صعيد تحرير القدس باستثناء ما قام به الأردن عبر الملك الحسين، رحمه الله، والملك عبدالله الثاني اللذين سعيا الى حماية الاماكن المقدّسة المسيحية والإسلامية ووضعهما تحت الرعاية الهاشمية.
عملت ايران منذ اعلان «يوم القدس» كلّ شيء من اجل استخدام القضية الفلسطينية والفلسطينيين والقدس تحديدا وقودا في مشروعها التوسّعي الذي يقوم على الاستثمار في نشر الغرائز المذهبية. نجح العرب في استيعاب المشروع التوسّعي الإسرائيلي والتصدي له. رفضوا دائما أي علاقات طبيعية مع إسرائيل، بما في ذلك في مصر والأردن، قبل أي إيجاد تسوية معقولة ومقبولة تعيد للشعب الفلسطيني الحدّ الأدنى من حقوقه. لكنّهم سقطوا، اقلّه الى الآن، في مواجهة التحدي الايراني الذي يشكل «البدر الشيعي» آخر تعبير عنه والذي يقوم في واقع الحال على تدمير المدن العربية الواحدة تلو الأخرى، فيما الشعار المرفوع «يوم القدس».
بدأ تدمير المدن العربية ببيروت التي تعرّضت في ثمانينات القرن الماضي لاشرس هجمة إيرانية استهدفت تغيير تركيبة العاصمة اللبنانية بتمهيد من حافظ الأسد الذي كان وضع «جيش التحرير الفلسطيني»، او على الاصحّ الالوية الموالية له في هذا الجيش، لتكون حاميا للخط الفاصل بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية، وذلك منذ أواخر سبعينات القرن الماضي أي قبل حصول الثورة على الشاه في ايران في العام 1979 والاعلان عن يوم القدس في يوليو من تلك السنة.
إلى ما قبل فترة قصيرة، أي الى اليوم الذي سقط فيه العراق بعد الاحتلال الاميركي للبلد وتسليمه على صحن من فضّة الى ايران، في العام 2003، كانت القضية الفلسطينية، اقلّه من الناحية النظرية، القضية العربية الاولى. بقيت كذلك، على الرغم من كلّ الفرص الضائعة للوصول الى تسوية، وهي فرص كشفت وجود تواطؤ إيراني ـ إسرائيلي في مكان ما من اجل ان يبقى الوضع الفلسطيني معلّقا. لم توفّر ايران ايّ فرصة لوضع العراقيل في طريق ياسر عرفات الذي سعى من خلال اتفاق أوسلو، على الرغم من كلّ ما فيه من شوائب، الى تحقيق تقدّم في مجال تنفيذ المشروع الوطني الفلسطيني.
في الواقع، لم يكن «أبو عمّار»، الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، بعيدا عن الثورة الايرانية التي أطاحت الشاه وجاءت بالخميني حاكما مطلقا لإيران. ادرك عرفات باكرا انّه لا يستطيع ان يكون اكثر من أداة من أدوات الخميني وذلك بعد اللقاء الاول بينهما. لم يعن اغلاق السفارة الإسرائيلية في طهران وتحويلها الى سفارة لفلسطين قبولا بالقرار الفلسطيني المستقلّ. كان ذلك مؤشرا الى رغبة في وضع الثورة الفلسطينية في جيب إيرانية لاستخدامها ضد العرب عموما، وضد العراق خصوصا الذي كان يحكمه حكما مطلقا، ابتداء من يوليو 1979 شخص لا يعرف كثيرا في السياسة، لكنّه يتقن القمع بما في ذلك قمع الرفاق البعثيين، اسمه صدّام حسين.
كانت الخيبة التي أصيب بها «أبو عمّار» بعد اللقاء الاوّل مع الخميني وراء المصالحة الكاملة مع نظام عراقي يعتبر المسؤول المباشر، عبر موتور اسمه صبري البنّا (أبو نضال)، عن اغتيال مجموعة كبيرة من ممثلي منظمة التحرير الفلسطينية في عواصم اوروبية آمنوا باكرا بإمكان تحقيق تسوية سلمية. من بين هؤلاء عزالدين قلق الذي اغتيل في باريس وسعيد حمامي الذي اغتيل في لندن ونعيم خضر في بروكسيل...
وضع ياسر عرفات ملفّ خلافاته مع نظام صدّام حسين خلفه بعدما اكتشف ما ينتظره في حال اكمل رحلته مع النظام الايراني الجديد. هرب «أبو عمّار» من طهران الى بغداد سريعاً مستغلاً في البداية، النافذة التي فتحتها زيارة الرئيس المصري أنور السادات للقدس في نوفمبر 1977. ذهب عرفات الى مصالحة مع حسين في مرحلة لاحقة، أي بعد وصول الخميني الى السلطة وبعدما فشله في اكتشاف انهّ اسير «جنون الجغرافيا»، على حد تعبير نبيل عمرو، أي اسير بيروت التي أراد البقاء فيها رئيسا لـ «جمهورية الفاكهاني» بدل الذهاب الى كامب ديفيد في خريف العام 1978. كان ذلك قبل التغيير الكبير في ايران وقبل ان يسيطر الخميني على ايران وقبل ان يقرّر انّ القضية الفلسطينية والقدس بالذات، فضلا عن لبنان، ورقة مهمّة في مشروع «تصدير الثورة». ولكن ما العمل عندما كان النظام السوري يسيطر على لبنان وعندما كان «أبو عمّار» يفضل التحكّم ببقعة من الأرض اللبنانية على تحرير نفسه من الوصاية السورية والدخول في مغامرة من النوع الذي وفّره له أنور السادات في وقت لم يكن عدد المستوطنين في الضفة الغربية يتجاوز بضعة آلاف بدل 650 ألفا في الوقت الحاضر. هذا في اقلّ تقدير.
تغيّر الكثير منذ اعلان «يوم القدس» في 1979 والاحتفال به مجددا في 2017. انتقلت ايران من مرحلة استخدام ورقة القدس لتعطيل أي تسوية سلمية من أي نوع وتبرير سعيها الى وضع اليد على لبنان وإبقاء جنوبه «ساحة» تطل منها على إسرائيل سعيا الى صفقة ما معها، الى ما هو أوسع من ذلك بكثير. «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» يقاتل في سورية والعراق ويدمّر كلّ مدينة عربية يصادفها. من بغداد الى البصرة اللتين تغيرت طبيعتهما الى الموصل التي يجري تهجير أهلها بطريقة مدروسة. بعد العراق، جاء دور سورية. قُضي على حمص وحماة وحلب وطوّقت دمشق. كانت البداية في بيروت التي صارت منذ العام 1984 وبعد بدء خطف الأجانب فيها مدينة أخرى مختلفة قبل ان يعيد رفيق الحريري الحياة اليها. وقد دفع الحريري حياته ثمنا لاعادته الحياة الى بيروت وبسبب أمور أخرى طبعا...
لم يكن هناك، في يوم من الايّام، يوم للقدس. كان هناك استخدام للقدس في لعبة بدأت الآن تتضح معالمها من خلال وصول «الحشد الشعبي» الى الحدود العراقية ـ السورية لتحرير سورية من السوريين. هذا كلّ ما في الامر. كلّ ما تبقى تفاصيل وشعارات ترفع من اجل إيجاد تغطية لمشروع توسّعي اخذ مداه بعد الاحتلال الاميركي للعراق في 2003. ليس صحيحا، بعد تلك السنة الكلام عن انّ فلسطين ما زالت القضية العربية الاولى. هذا الشعار يستخدم للتعمية على حقيقة ان قضية العراقيين هي العراق وقضية السوريين هي سورية وقضية اللبنانيين هي لبنان. ليس «يوم القدس» سوى قضيّة إيرانية هدفها بلوغ «البدر الشيعي» أي وصل طهران ببيروت مرورا ببغداد ودمشق...
عن الرأي الكويتية