ضاقت الدنيا على رحابتها، فلم يعد لمليوني فلسطيني شاءت الأقدار وحدها، وحكم التاريخ، ان يكونوا في هذا الشريط الصغير والمساحة الضيقة، التي تصغر كثيراً عن ضيعة يمتلكها صغار الأثرياء من العرب. في غزة الناس يتحركون كالآلات العفوية، لا يملكون سوى جملة «إن شاء الله»، «ربنا سيفرجها»، لا تتوقف دعوات البسطاء في رمضان، بل في كل اشهر السنة، لكن الفرج متأخر، لا يعرف احد متى سيأتي وعلى أية صورة. البعض يمني النفس، ويتمنى أن يكون عذاب الدنيا، جواز السفر الى آخرة يندفعون الى جنانها دون حساب، طالما انهم دفعوا الفاتورة مسبقاً. لم يعد، ضروريا للكتّاب او السياسيين او حتى نشطاء المجتمع المدني، أن يقدموا جردة متجددة للازمات والهموم والمشكلات التي يعاني منها هذا الكم من البشر، فمن أراد ذلك، فإن تقارير المنظمات الدولية، وشبكات التواصل الاجتماعي، تعج بالمعطيات، والمعلومات الحقيقية، والتي تقصر أحياناً عن تصوير الواقع على حقيقته. فعدا عن الأزمات الكبيرة المعروفة التي تنغص حياة الناس ليل نهار، وبعد ان اصبح الخصم من الرواتب، أمراً واقعياً، وثابتاً، يخشى هؤلاء من ان ينقطع الوصل كله، والراتب كله، حتى يتوقف القلب عن الخفقان. ربما كانت معاناة الناس من مرضى السرطان، والقلب والضغط والسكر، والفشل الكلوي، مؤلمة لمن يراقب الوضع من بعيد، ولمن يضع ذلك على طاولة الحسابات السياسية والمصلحية، لكن الأمر بتداعياته ابعد واعمق من ذلك بكثير، ففي ظل ارتفاع نسب الاصابة بهذه الامراض، يعاني القطاع الصحي، من ندرة الاجهزة، وخراب المتوفر منها، ومن نظام صحي يحيلك الى القدر، ليخفي قلة الخبرة، هذا فضلا عن ندرة او ربما تغييب الادوية والعلاجات المطلوبة لا سبيل عن تحويل المرضى الى الخارج، وهو امر مكلف مادياً، لكن غياب البعد الإنساني المسؤول قد يرى بأن توفير الأموال، اهم من حياة الإنسان. تتقاذف السلطة مع إسرائيل المسؤولية عن توقف او محدودية التحويلات الطبية، لكن النتيجة واحدة وهي ان المرضى يموتون وتتصاعد معدلات الوفاة. نعلم أن الاحتلال هو أساس ومصدر كل هذه المصائب، ولكننا نتساءل عن حجم المسؤولية التي يتحملها المسؤول الفلسطيني، سواء من له علاقة باستمرار الانقسام، او من يرى ان النضال ضد الاحتلال في هذا الجانب لا يستحق الاهتمام.
هل أصبحت غزة، حاملة المشروع الوطني وحارسته عبئاً زائداً على الاحتلال، وعلى المحيط العربي والإقليمي، وعلى المجتمع الدولي؟. اكثر من ذلك، هل اصبح الإنسان في نظر وحسابات السياسيين الفلسطينيين لا يصلح الا وقوداً لتحقيق الأجندات الفصائلية والخاصة؟
اسحق رابين في زمانه، تمنى ان يبتلع غزة البحر، فكان على شارون ان يتخلص منها، وان يخرجها من حسابات المعركة الديمغرافية، والسلطة تريد استعادتها، ولكن بوسائل لا تنجح في تحقيق الهدف، طالما ان "حماس" تتمسك بالسيطرة عليها، وتلوذ الى افشال ما تقوم به السلطة من خلال الصمود والصبر، وانتظار الفرص. ومصر الجارة الكبيرة يفرض عليها التزامها بأمنها القومي، ورفضها المخطط الإسرائيلي الذي يعمل على فصل قطاع غزة، ودفعه نحوها، بأن تتبع سياسة معينة لا تجعلها حرة في ان تقدم ما يلزم لرفع الحصار. العرب والعالم يضيقون ذرعاً بهذه المساحة الضيقة، ومن عليها، فيتواطأ البحر، والجو، مع الكل ليحكم حصاره، ويغلق في وجه الغزيين كل الأبواب والمنافذ.
يعرف الجميع ان غزة لن تموت، وأن أهلها هم جزء ممن وصفه الرئيس الراحل ياسر عرفات، بأنه العنقاء، وبأن كل حسابات التدمير، لن تنفع. هو فقط الحوار، وإدراك أهمية تقديم التنازلات المتبادلة من قبل طرفي الانقسام، ما يمكن ان يعيد غزة الى حضن الشرعية الفلسطينية، والى قلب المشروع الوطني، الذي يستهدف بعد غزة، القدس، والضفة الغربية التي لم يتخل الإسرائيليون عن اعتبارها وتسميتها «يهودا والسامرة». لمن لا يصدق عليه أن يقرأ ما كشفت عنه صحيفة جيروزاليم بوست، عن تفاصيل «مبادرة السلام الإسرائيلية» للكاتب «عوفر إسرائيلي»، وهو خبير في الشؤون السياسية والأمن الدولي في مركز «هرتسليا». تبشرنا المبادرة بمفاوضات إقليمية، تحقق فيها إسرائيل أهدافاً استراتيجية، بدون ان تدفع اي ثمن، بل إنها اكثر من ذلك، تسعى لتحقيق وإنجاح مخططاتها التوسعية في الضفة الغربية. ولتحقيق هدف الانفصال الديمغرافي عن الفلسطينيين تتحدث «المبادرة» عن كيانية فلسطينية في الضفة الغربية تتبع وفق علاقة ما الاردن، واخرى في غزة تتبع وفق علاقة ما مصر.
أرجو أن لا يتطوع أحد بالقول، هذا ما تريده اسرائيل، وهو مرفوض من قبل الفلسطينيين والعرب، ذلك ان الكل يعرف مدى قدرة إسرائيل على التأثير في سياسة ومواقف الإدارة الأميركية، ومختلف مؤسسات القرار فيها، والكل يعرف، مدى حاجة بعض العرب للتعاون معها على خلفية القائمة الموجودة للأولويات.
الكل يساهم في دفع التطورات، في الاتجاه الذي يغلب المصالح والحسابات الخاصة، بما في ذلك من يواصل الحديث عن أولوية الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، فطالما ان هؤلاء يخوضون الصراع الإقليمي لتحقيق أولوياتهم ومصالحهم، فإنهم بذلك يهمشون القضية الفلسطينية وأهلها، كأمر واقع. وصدق من قال ان ظلم الأقربين أشد مرارة، فإن كان هذا هو حال السياسات والأجندات والتطورات في المنطقة والإقليم، فإن اللوم كله يقع على عاتق من يتسبب من الفلسطينيين في إضعاف الحالة الفلسطينية والاستهانة بأهمية توحيدها، لما في ذلك من تجميع وتحفيز لأوراق القوة الفلسطينية وهذا اضعف الإيمان. قد يسامح الإنسان أخاه، لكن التاريخ لا يمكن ان يسامح أو يتسامح مع من يستهين به.