أمتار قليلة، أقل من كيلو متر مربع، هو كل ما تبقى من "داعش" في الموصل، في الوقت الذي تحتدم فيه معركة الرقة، بهدف أن يتزامن طرد "داعش" من العراق مع طرده من سورية، فيما مصير قائد التنظيم الذي كان قبل أكثر من عامين بقليل أعلن أول دولة عابرة لحدود سايكس/بيكو في العالم العربي، مجهولاً، حيث تؤكد بعض المصادر أنه قتل، بما يعني بكل وضوح أن مرحلة "داعش" التي ملأت الدنيا وشغلت الناس نحو ثلاثة أو أربعة أعوام قد انتهت.
وفي الحقيقة، إن خروج "داعش" من كل من العراق وسورية وهزيمته بقدر ما تعتبر ضربة قاضية للإرهاب في المنطقة الناجم عن تلاقح عدة عوامل، منها ما هو ناجم عن فساد وترهل أنظمة الحكم المستبدة الفردية والعسكرية، وعن الفقر والتخلف، فإنها ستفتح ملفات صراع من نوع آخر في المنطقة، قد لا يكون بمستوى الحدة التي كانت عليها صراعات الجماعات المسلحة/المتطرفة مع جيوش وأنظمة حكم الاستبداد، لكنها ستضع حداً لاصطفافات إقليمية كانت قائمة في مواجهة "داعش".
من أجل الاقتراب من الصورة أكثر، لا بد من الإشارة إلى أن ملفي العراق وسورية، اللذين كانا مسرحاً للصراع الدموي مع "داعش" كانا من أكثر الملفات التي كثر فيها تدخل القوى الإقليمية والدولية، ففي العراق_ وفيه التدخل المباشر الخارجي أقل سفوراً _ بدأ منذ إسقاط نظام صدام حسين وجود "توافق" خفي بين إيران والولايات المتحدة، على قاعدة تأييد_ كل لاعتبارات خاصة به_ الحكومة الشيعية التي نشأت على أنقاض نظام صدام حسين، وبدت معركة دحر "داعش" من الموصل معركة الجيش العراقي تسانده ميلشيات الحشد الشعبي الطائفية الشيعية، والقوات الأميركية، وبدا الآخرون باستثناء إيران بالطبع غير معنيين كثيراً بتلك المعركة، مع أنه نجم عنها تطهير عرقي؛ جراء نزوح نحو ربع مليون عربي سني من المدينة الثانية بالعراق.
أما في سورية فالموضوع مختلف كثيراً، حيث توجد على الأرض قوات عسكرية لأكبر دولتين في العالم: روسيا وأميركا وأهم دولتين إقليمياً: إيران وتركيا، حيث يبدو التنافس على النفوذ الميداني، على أشده بين الأطراف، بما يشبه ما حدث على أرض ألمانيا في نهاية الحرب العالمية الثانية، حين تقدمت القوات السوفياتية والقوات الأميركية باتجاه برلين، وما كان من حل بعد ذلك سوى تقسيم ألمانيا وحتى تقسيم العاصمة برلين نفسها.
في سورية، كان الجميع قد توحد حول هدف دحر "داعش"، روسيا وأميركا، النظام والمعارضة، دول الخليج وإيران، وتركيا، وكانت دول الخليج لا تواجه اختلافات فيما بينهما في الملف السوري، على عكس ملف ليبيا ومن قبله الملف المصري، فالملف اليمني من بعده، ما من خلاف أو اختلاف بين قطر والسعودية والإمارات في الملف السوري، فهم جميعاً مؤيدون وداعمون للمعارضة بمختلف أطيافها ومعارضون للنظام وحلفائه.
طي ملف "داعش"، سيعني أولاً فتح الملف السوري على الحل، وإذا كان الملف العراقي غير مفتوح سياسياً، بما يعني أن طرد "داعش" يعزز من قوة النظام القائم، وقد يفتح عليه أبواباً داخلية من نمط مطالبة الحشد الشعبي بالشراكة في الحكم بعد الدور الذي لعبته في ميدان المعركة، ومن يدري فربما كان من نتيجة ذلك تولي المدعو فالح الربيعي (أبو عزرائيل) وزارة الدفاع العراقية، لكن ليس هناك من احتمالات أن يؤدي طرد "داعش" من العراق إلى معادلة سياسية إقليمية مختلفة، سوى أن يزيد نفوذ الحشد الشعبي والجماعات الشيعية المسلحة ومن القهر الطائفي، حيث يمكن التوقع بأن يصبح سنة العراق مثل عرب الأهواز في إيران.
نقول: إذا كان الملف العراقي غير مفتوح سياسياً على الخارج الإقليمي فإن الملف السوري عكسه تماماً، سيعني أن الأطراف الموجودة في سورية مضطرة إما للاصطدام أو التوافق أو الاتفاق على حل سياسي. وإذا كان الحل السياسي بتفاصيله النهائية، من الصعب تخيله، لأنه سيبدأ بالخلاف حول مصير الرئيس بشار الأسد نفسه، ولأن الحل سيقرر وحدة سورية أو تقسيمها، لذا فإنه على الأغلب _ في المدى المنظور على الأقل _ ستلجأ الأطراف للتوافق أكثر من الاتفاق؛ ذلك أن وجود أميركا وروسيا عسكرياً في الميدان السوري وبشكل مباشر يحتم عدم الاصطدام، لأنه من شأن ذلك أن يشعل الكرة الأرضية بحرب عالمية نووية، ليس هناك من سبب يدعو لذلك، فسورية ليست مركز الكون، ولا أغنى بقاع الأرض، وأميركا ضامنة لنفوذها في المنطقة، كذلك روسيا حققت ما لم تكن تحلم به قبل أقل من عامين في سورية.
لذلك نتوقع أن تسعى الأطراف إلى حشد حلفائها من أجل معركة تجاه عدو آخر، وقد سارعت أميركا قبل غيرها لاستلام زمام المبادرة، فحشدت حلفاءها العرب، في قمم الرياض، ومعهم إسرائيل بالطبع، بتحديد عدو جديد هو إيران والإرهاب ما بعد "داعش" _ وتم تحديد "حزب الله" و"حماس" إلى جانب "القاعدة" و"داعش" _ وإذا كانت هناك مشكلة قطر/ دول الخليج ومصر، فإن واشنطن تسارع إلى إغلاق هذا الشق في صف حلفائها، حيث تتبقى بعد ذلك إعادة تركيا لبيت الطاعة وهذا أمر أصعب، لكن أميركا تدرك واقع التنافس بين تركيا وإيران، وهي بحاجة لأن تقنع تركيا بأنها لا تؤيد الأكراد على حسابها لتعيدها إلى صفها، كذلك هناك أوروبا التي بعد سورية لن تهتم كثيراً بمواجهة إيران .
أما روسيا فما زالت تبحث عن حلفاء رسميين في المنطقة، ولن تجد غير إيران، وإلى حد ما تركيا، وطبعاً سورية/الأسد، فيما الحرب على الإرهاب ستتحول إلى محاربة كل الجماعات والأحزاب السياسية المسلحة، ولن يجدي بعد ذلك وصف بعضها بالمقاومة لتفلت من نيران الحرب القادمة!
الضربة الإيرانية وميزان الردع في الإقليم
03 أكتوبر 2024