تعيش دولة الاحتلال حالة غير مسبوقة من انتشاء القوة، الى درجة ينطبق عليها القول الشعبي "القوي عايب".
مقومات القوة التي تستشعرها تتأتى من اكثر من مصدر:
من مصدر قوتها الذاتية السياسية والمجتمعية والعسكرية والاقتصادية والعلمية و.....
ومن مصدر قوة تحالفاتها الدولية وبالذات تحالفها غير المسبوق مع الولايات المتحدة برئيسها الجديد الذي يضعها في مقدمة وعلى رأس تحالفاته ويتجاوب مع ما تطلب وزيادة. إضافة الى قوى دولية عديدة أُخرى.
ثم تأتي من مصدر الضعف الشديد حتى الوهن لقوة مجابهيها سواء تمثلوا في الأنظمة العربية او في النظام الفلسطيني العام المنقسم على نفسه والمنشغلة أطرافه باشتباكاتها البينية.
في هذا الحال من انتشاء القوة تعطي دولة الاحتلال لنفسها الحق ان " تدلق" كل رغباتها وطموحاتها وأهدافها ومطالبها، وان تجاهر أيضا بهواجسها، بلا تحفظ ولا حياء ولا مواربة ولا رتوش، ولا حساب لأحد.
ويسمح هذا الحال لدولة الاحتلال ان تجاهر بقلب الأولويات رأسا على عقب:
تتجاهل وتنكر تماما أولويات الصراع الأساسية والمتجذرة والمدعمة بكتيبة من القرارات والأعراف الدولية تكسبها شرعيتها الدولية الى جانب شرعيتها الوطنية، تتجاهلها وتنكرها، لصالح أولويات لا يمكن ان يكون لها موقع في سلم الأولويات في الأحوال العادية.
فجأة تختفي من كلام دولة الاحتلال وعن كل تداولاتها، العناوين الأساسية والتاريخية للصراع: الاحتلال وضرورة زواله، الاستيطان ووجوب وقفه، الدولة الفلسطينية، القدس، عودة اللاجئين، الموارد الطبيعية،..... لتحل محلها في سلم الأولويات عناوين للصراع ظهرت كنبتة شيطانية لا أصول لها ولا جذور من الحق والحقيقة والواقعية، ولا شرعية لها من اي جهة دولية.
فجأة، نجد أنفسنا في سلم الأولويات أمام عنوان/مطلب "ضرورة وقف التحريض" الفلسطيني ضد دولة الاحتلال وسياساتها.
وفي هذا المطلب قلب للحقائق وتحوير وتزييف للقوانين الحاكمة ومعانيها. فلا يمكن إدراج تمسك الشعب الفلسطيني - واي شعب تحت الاحتلال- بحقوقه الوطنية وإصراره على استعادتها وتعبئة أجياله الجديدة حولها، واستمرار نضاله ضد الاحتلال لإزالته، لا يمكن اعتبارها تحريضا بل هي مقاومة شرعية فرض وجودها الاحتلال وتكفلها كل المواثيق والأعراف الدولية.
الغريب ان هذا العنوان يقابل بالدعم والتأييد من الإدارة الأميركية. وتسارع للأسف، بعض الأجهزة والمؤسسات الفلسطينية وبعض القيادات الى نفيه والتبرؤ منه وكأنه تهمة، في تساوق، غير مقصود بالتأكيد، مع مفهوم دولة الاحتلال للتحريض.
ان المحرض الحقيقي والأول هو دولة الاحتلال ذاتها، باستمرار احتلالها وبكل سياساتها التوسعية والعنصرية والقمعية.
وفجأة، نجد انفسنا في سلم الأولويات أمام عنوان/ مطلب تعجيزي هو ضرورة وقف صرف السلطة الفلسطينية مخصصات الأسرى في سجون الاحتلال ومعتقلاته.
هذا اولا، ممارسة طبيعية ومسؤولية وطنية تقوم بها السلطة منذ سنوات طويلة، كحق للأسرى واسرهم على المجتمع الفلسطيني وسلطته، وتنظيماته السياسية.
وحسنا فعلت السلطة الوطنية بعدم التساوق مع هذا المطلب، بل وإعلانها ممثلة ببعض رموزها وهيئاتها، رفضها له، لأن مجرد التجاوب ولو النسبي، والتعاطي ولو الأولي مع هذا المطلب يضع مشروعية السلطة الوطنية والنظام السياسي امام المساءلة الجدية.
ونجد انفسنا في سلم الأولويات أمام عنوان/مطلب وجوب الاعتراف بـ " يهودية " دولة الاحتلال ليس فقط من الطرف الفلسطيني بل من الدول العربية أيضا.
ونجد أنفسنا أمام عناوين ومطالب غريبة ومقحمة أُخرى مثل ضمان امن دولة الاحتلال، ومثل طلب إلغاء وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "اونروا".
وايضا، نجد انفسنا امام اولويات ومطالب من المجتمع الدولي ومؤسساته تلعب الولايات المتحدة فيها دور حصان الجر المندفع، منها التهديد الأميركي بالانسحاب من مجلس حقوق الإنسان اذا لم " يتأدب" ويعدّل من مواقفه المساندة للشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة. ومؤخرا تقوم الولايات المتحدة بدور البلدوزر في حملة عالمية واسعة لمقاومة ووقف نشاط وانجازات منظمة الـ BDS والضغط على الدول الاوروبية لمحاصرة وجودها ونشاطاتها من باب التشكيك بهويتها وطبيعتها واستهدافاتها.
حال انتشاء القوة الذي تعيشه دولة الاحتلال يسمح لها الدخول في تركيب وتلفيق مواقف وتصريحات غير حقيقية بهدف حرق أشخاص بعينهم او هيئات ودوائر، او افتعال أحداث ومواقف عامة تستغلها في هجماتها لإثارة الشكوك والتفرقة ولخدمة مخططاتها. وهو ما يتطلب الحذر الشديد من قبل من يصرح وبالذات من له موقع وصفة، سواء فيما يقول او في اختيار الوسيلة الإعلامية لقوله، حتى لا تتكرر تصريحات النفي لدرجة تستدعي الشكوك حول مصداقيتها.
ويتطلب قبل ذلك، اعلان المواقف الرسمية اولا والشعبية المتمسكة بالثوابت الوطنية باقصى درجات الوضوح والدقة لقطع الطريق على اي تحوير او استغلال.
وحال انتشاء القوة الذي تعيشه دولة الاحتلال هو ما يسمح لها باعطاء معان وتفسيرات واستنتاجات لمواقف دول عربية باكثر مما تحتمله وتعنيه، مستفيدة في ذلك من الجو العام المهيأ للتصديق، ومن ضعف رد وتكذيب تلك الدول وتوضيحها لمواقفها.
حال انتشاء القوة وكل تعبيراته المذكورة وغيرها، لا يترك مجالا للشك ان دولة الاحتلال قد اتخذت قرارها وحددت مسارها: ان تحلب الظرف الموضوعي المهيأ لها الآن حتى آخر قطرة وآخر فرصة، ولترسي على ارض الواقع حقائق يصعب جداً إلغاؤها او تجاوزها لسنين طويلة قادمة، وبما يؤمن لها درجة غير مسبوقة من الاستقرار ومن القبول في محيطها الجغرافي المباشر.
في هذا المسار لا مكان لأي شيء ولا لأي تنازل مهما صغر لصالح الثوابت الوطنية الفلسطينية.
وفي هذا المسار، تسير معها الولايات المتحدة كتفاً بكتف. وبلا مقدمات من اي نوع تشير الى إمكانية افتراق المسارين مهما كان الافتراق ضئيلاً ومحدوداً.
السؤال، هل هذه الصورة السوداوية تعني القنوط والتسليم؟
والجواب، "لا" قوية، و"أبداً" حاسمة، طالما هناك شعب يقاوم ويتمسك بحقوقه وثوابته الوطنية.