كان كابتن جيمز كوك مكتشفا شهيرا، عاش في القرن الثامن عشر، وقد أُعجب الناس به لكثرة وأهمية اكتشافاته، في عالم كانت أجزاء واسعة منه لا تزال غير معروفة في أوروبا.
طرأت هذه الشخصية على فكري حين قرأت قبل بضعة أيام المقال المهم ليوسي بيلين في «نيويورك تايمز». فتحت عنوان «كونفدرالية من أجل السلام؟» طرح بيلين اقتراحا سياسيا مثيرا وواسع الأفق، مثل كل الأفكار الإبداعية لهذا الرجل على مدى السنين.
يروى أن اوسكر وايلد كان حاضرا ذات مرة في مسرحية تعرض لأول مرة بقلم منافس. وفي أثناء العرض كان ينزع بين الحين والآخر القبعة التي يعتمرها. «لماذا تفعل هذا؟» سأله جاره. فأجابه وايلد: «علموني في صباي أن انزع القبعة عندما التقي شخصا أعرفه قديما».
لقراءة مقال بيلين كنت أنزع القبعة، لو اني اعتمر واحدة. فاقتراحه هو معرفة قديمة، وقديمة جدا. وهو يكرر كلمة بكلمة تقريبا «البيان العبري» الذي نشر في الأول من أيلول 1958.
وبالمناسبة لم يحصل هذا لي لأول مرة. ففي 10 آب 2001 وقعت في جنيف بفخار وأبهة مسودة اتفاق سلام إسرائيلي – فلسطيني، حملت مسمى «مبادرة بيلين». لم اكن بين مئات الضيوف الذين دعوا الى الاحتفال. فقد افترض المبادرون، على ما يبدو، أن الصيغة لن تثير اهتمامي، وكان ذلك حقا؛ فقد كانت «مبادرة جنيف» تقريبا نسخة دقيقة عن مسودة اتفاق السلام التي نشرناها، رفاقي وأنا، من جماعة «كتلة السلام»، قبل سنتين ونصف السنة من ذلك في «هآرتس».
ولكن هذه أمور تافهة. فمضمون الأمر نفسه أكثر أهمية بما لا يقاس. فالفكرة اللامعة الجديدة لبيلين هي باختصار:
1. تقوم دولة فلسطينية الى جانب دولة إسرائيل، في حدود 1967 مع تعديلات طفيفة.
2. لكل واحدة من الدولتين تكون حكومة، برلمان، وباقي المؤسسات الرسمية.
3. تقوم كونفدرالية بين الدولتين، وتكون لها سلطات مشتركة لتسوية المشاكل بينهما.
4. تواصل المستوطنات الوجود على ارض فلسطينية، شريطة أن تكون خاضعة للقانون الفلسطيني. وبالتوازي تستوعب إسرائيل عددا مشابها من الفلسطينيين.
5. تبقى القدس موحدة وتكون عاصمة للدولتين.
أعتقد أن هذه فكرة ممتازة. بيضة كولمبوس حقا. نعيش بانفراد ولكن معا، معا ولكن بانفراد. نسوي بيننا كل المشاكل. إسرائيل تكون دولة يهودية، والبلاد تبقى موحدة.
سألت نفسي: أين سمعت هذه الأمور من قبل؟ وعندها تذكرت: أنا كتبتها قبل 56 سنة.
«البيان العبري» من العام 1958 كان ثمرة عمر مشترك لمجموعة من الأشخاص، تبلورت أثناء حرب السويس. وضمت المجموعة أيضا نتان يلين – مور، الزعيم السابق لتنظيم ليحي السري، الصحافي والمفكر بوعز عفرون، رجل القانون روبين يردور، الكاتب عاموس كينان وآخرين. وقد كانوا متحدين في معارضتهم لتلك الحرب، ولا سيما لارتباط إسرائيل بفرنسا وبريطانيا، اللتين كانتا في حينه قوتين عظميين استعماريتين.
واستغرقت كتابة الوثقة سنة ونيفا. توزعنا فيما بيننا العمل، وانا كنت مكلفا صياغة الفصول المتعلقة بالسلام.
وتضمن الصيغة كل اقتراحات بيلين أعلاه. ولما كان عندي جنون لتسمية الأشياء بأسماء عبرية، فقد سميت الفيدرالية «اغودات الأردن» (لم يكن للجيش الإسرائيلي فرق وكلمة «اغودا» لم تكن بعد قيد الاستخدام). وكان يفترض بالاتحاد ان يضم دولتين مستقلتين – إسرائيل وفلسطين – موحدتين بمؤسسات لغرض حل المشاكل المشتركة. وكان يفترض بهذا الاتحاد ان يسعى الى إقامة «ميثاق سامي» يضم إسرائيل، فلسطين، وكل الدول العربية.
الخطة المفصلة، ببنودها الـ 83 التي عالجت كل مجالات الحياة، سميناها «البيان العبري»، والحركة التي أقمناها لتجسيدها سميناها «العمل السامي». هذا أيضا لم يكن تجديدا تاما. فغداة حرب 1948، طرحنا، رفاقي وانا فكرة لإقامة دولة فلسطينية مستقلة الى جانب إسرائيل، في إطار اتحاد يسمح بحياة مشتركة في البلاد. أجرينا كل المناقشات مع شخصيات فلسطينية شابة، انتخب بعضهم بعد ذلك للكنيست.
نشرنا هذه الأمور لأول مرة في «عولام هزيه» في العام 1954، عندما اندلعت في الضفة الغربية انتفاضة ضد النظام الأردني المؤيد لبريطانيا. وغداة حرب «الأيام الستة» أقامت ذات المجموعة «حركة من اجل الاتحاد»، روجنا فيها للمبادئ ذاتها، في الظروف الجديدة.
يروي بيلين ان الفكرة الابداعية طرأت له حين تحدث مع فيصل الحسيني - رحمه الله - زعيم الجمهور العربي في القدس، في الوقت الذي كان لا يزال فيه عرفات في الخارج. وكان الحسيني بالفعل رجلا محبوبا، جماهيريا جدا، وطنيا فلسطينيا حقيقيا وشجاعا، ذا آراء معتدلة ومتوازنة. أنتجت أحاديثي الطويلة مع الحسيني في حزيران 1969 وثيقة «قدسنا»، وفيها خطة لخلق «قدس موحدة»، عاصمة الدولتين. وقد وقع الحسيني عليها مع مئات كثيرين من الإسرائيليين والفلسطينيين.
يظهر إحياء بيلين هذه الأمور ان الأفكار الصحيحة لا تموت. وهي تبدو الآن صحيحة ومنعشة مثلما في يوم ولادتها قبل عشرات السنين. يستحق بيلين الشكر على تجديدها.
وتجدر الإشارة الى أنه منذ بدايتها لم تكن هذه الأفكار أفكار «طلاق»، بل أفكار زواج. ليست نتيجة كراهية، بل تماثل وأخوة. ليست أفكار فصل بل اتحاد. بلاد إسرائيل الكاملة وفلسطين الكاملة – بلاد واحدة.
عن «هآرتس»