منذ استيلاء حماس على السلطة في قطاع غزة قبل نحو عشر سنوات، يعاني مليونا فلسطيني في القطاع من أسوأ ظروف يمكن تصورها. فبالإضافة إلى ثلاث حروب مدمرة شنها الكيان على القطاع، والتي دمرت منازله وبنيته التحتية وقتلت وأصابت الآلاف من مواطنيه، يخضع القطاع لحصار خانق دائم، يحرم الغزيين من السلع والمواد الأساسية، وفرص العمل، وحرية الحركة، والعيش الكريم. وذكر تقرير أعده ونشره مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية في أيلول (سبتمبر) 2015، أن "سكان غزة يعتمدون على طبقات المياه الجوفية الساحلية كمصدر وحيد للمياه العذبة، لكن 95 % من هذه المياه ليست آمنة للشرب". وقدرت الأمم المتحدة أن "نسبة البطالة في غزة بلغت 44 % في العام 2014"، وقد ذهبت هذه الأحوال قطعاً إلى مزيد من السوء منذ ذلك التاريخ.
لخصت الكاتبة بينيديتا بيرتي العوامل التي تتكالب على غزة في مقال أخير نشرته في مجلة "فورين أفيرز"، فكتبت: "ثمة مزيج خطر من الخصومة الفلسطينية-الفلسطينية، والافتقار إلى استراتيجية إسرائيلية طويلة الأمد للتعامل مع حماس، والقصور الدولي، وعدم وجود عملية سياسية، والذي يفاقم مأزق غزة المرير ويضاعف إمكانية نشوب الصراع". يضاف إلى ذلك بطبيعة الحال تذبذب الدعم العربي والإقليمي للقطاع بسبب المواقف المتغيرة من حماس، والترتيبات الجديدة التي يجري الحديث عنها لغزة والعلاقات العربية مع الكيان.
مهما تكن الخلفيات، يجري الآن تكثيف العقوبات الجماعية ضد سكان غزة، بحرمانهم من الكهرباء. وقد أعلنت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن العوز الشديد للكهرباء يعرّض للخطر "الخدمات الأساسية، بما في ذلك الرعاية الصحية، ومعالجة مياه الصرف الصحي، وتوفر مياه الشرب". ويعني ذلك تسهيل انتشار الأوبئة والأمراض التي تنتقل عن طريق المياه غير النظيفة، وتلويث الشواطئ والمياه بسبب طرح المياه العادمة فيها، والتي تتعذر معالجتها بسبب توقف مرافق التنقية عن العمل بسبب نقص الكهرباء.
أما النتيجة المرعبة التي يتم تجاهلها بصفاقة لقطع الكهرباء عن القطاع، فهي نبوءة تقرير مؤتمر الأمم المتحدة المذكور، والذي قدّر أن قطاع غزة سيصبح منطقة "غير صالحة للسكن" بحلول العام 2020 إذا استمرت الاتجاهات الاقتصادية والبيئية الحالية. وإذا صدق هذا التوقع، فإن المليوني فلسطيني في القطاع سيضطرون بعد ثلاث سنوات فقط إلى حمل بقية متاعهم والبحث عن ملاجئ لهم في مكان آخر غير فلسطين. وهذا التصور خطير جداً، ويضيف إلى التكهنات حول تيئيس سكان القطاع تماماً –ربما بحرب عدوانية شرسة أخرى ضدهم- إلى حد القبول بالرحيل إلى صحراء سيناء وأي مكان آخر خارج الوطن.
من المفهوم أن يجتهد كيان الاحتلال، وأي جهات خارجية أخرى ضاقت بحماس وبمحنة الفلسطينيين، في تيئيس الفلسطينيين بتشديد العقاب الجماعي غير الإنساني ضد المدنيين في غزة. لكن ما يتعذر فهمه هو أن تتجاهل السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية تداعيات سياسات الحصار على مليونين من مواطنيها في غزة، ناهيك عن أن تكون مُشاركاً نشِطاً ومطالِباً بتكثيف العقاب الجماعي عليهم. ومن الغريب أن يكون المتابعون الغربيون أكثر حرصاً على تحذير السلطة من تسبب سياساتها بتدمير غزة والغزيين، وطلب السلطة الفلسطينية نفسها من كيان الاحتلال وقف إمدادات الكهرباء عن القطاع!
كتبت بيرتي في مقالها المذكور: "بالإضافة إلى السياسة الإسرائيلية القاسية وعلاقة مصر المعقدة مع حماس، تنتهج السلطة الفلسطينية في رام الله بقوة سلسلة من السياسات الرامية إلى إضعاف حماس. ومن بين أمور أخرى، تشمل هذه السياسات خفض رواتب موظفي الخدمة المدنية المدرجين على كشوف رواتب السلطة الفلسطينية في غزة، وإجراء تخفيضات على شحنات الأدوية والمعدات الطبية الذاهبة إلى القطاع. ولعل أكثر التطورات إثارة للقلق هو أن وصول غزة إلى الكهرباء أصبح سلاحاً سياسياً أيضاً في الصراع الحالي بين حماس والسلطة الفلسطينية".
لن تبرر أي ذريعة مشاركة السلطة الفلسطينية، بل وطلبها الصريح من العدو جعل الحياة مستحيلة وقطع الكهرباء عن مليوني فلسطيني مقهورين في غزة، لمجرد أنهم يعيشون تحت حكم نظام منافس. وإذا كانت نتيجة سياسات العقاب الجماعي الذي تشجعه وتشارك فيه السلطة ضد الغزيين هي جعل غزة، وهي جزء حيوي من فلسطين، "غير قابلة للسكن"، فإن ذلك جريمة وطنية وإنسانية لا يغفرها شيء، وخيانة لكل مبدأ وضمير.
عن الغد الأردنية