إذا كان الاختراق السياسي التاريخي الوحيد والأهم في ملف الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، كان اتفاق أوسلو، فإنه لا بد من تذكر واستعراض الظروف التي أدت إليه ودفعت الطرفين إلى دائرة التفاوض والقبول بمنطق الحل الوسط، وإن كان انتقالياً في تلك اللحظة التاريخية، حتى يمكن إدراك أو الإحاطة بأنه يمكن أن تتم إعادة الكرّة مجدداً، عبر مفاوضات جدية، رغم أن البعض يطالب هذه الجولة التفاوضية بما هو أبعد بكثير مما توصلت إليه أوسلو، أي بالتوصل للحل النهائي، ومن ثم ضمان تطبيقه على الأرض!
أولاً، لا بد من التذكير بأن التوصل لأوسلو كان عام 1993، أي بعد أعوام قليلة جداً من انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية الدولية، وبالتالي تبدد أحد العوامل التي كانت تمنع اعتراف الغرب الأميركي والأوروبي بالدولة الفلسطينية، فرغم أن م. ت. ف كانت عضواً مراقباً بالأمم المتحدة منذ العام 1974، إلا أن إقامة دولة فلسطينية، كانت ستحسب انتصاراً للمعسكر الاشتراكي في الحرب الباردة، ثم جاء بعد انطلاق مؤتمر مدريد الذي فرضه الشارع العربي على واشنطن، بعد أن جندت 30 دولة لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي بعد أقل من سنة على وقوعه، ولم تفعل الأمر ذاته بخصوص احتلال إسرائيل لفلسطين بعد أكثر من ربع قرن، في ذلك الوقت.
ثانياً، إن أوسلو جاءت بعد نحو خمس سنوات من اندلاع الانتفاضة الشعبية في فلسطين التي توجت الكفاح المسلح الذي كان سبقها بأكثر من عشرين عاماً، والتي ألحقت بإسرائيل خسائر سياسية لا حدود لها، بحيث إن إسرائيل والتي كانت موحدة في ذلك الوقت (حكومة وحدة بين عامي 1987_1991) برئاسة الليكودي المتطرف إسحق شامير ووزير دفاعه العمالي إسحق رابين، كانت على استعداد للإلقاء بقطاع غزة في البحر، أي للفلسطينيين أو لمصر أو الأمم المتحدة بعد أن أثقل كاهلها الأمني.
ثالثاً، جاء إعلان أوسلو وتوقيعه بعد أن حدث انقلاب داخل إسرائيل عام 1991، أي بعد أربعة عشر عاماً من حكم متواصل لليكود، بفوز اليسار ممثلاً بحزبي العمل وميرتس وبشبكة أمان عربية بفارق مقعد واحد في الكنيست (العمل 44 مقعداً + ميرتس 12 مقعداً + والعرب 5 مقاعد).
أي أنه بالكاد مع توفر العامل الداخلي الفلسطيني ممثلاً بالانتفاضة الأولى والعامل الإقليمي/الشعبي العربي، والعامل الدولي مع تحول داخلي إسرائيلي، بالكاد أظهرت إسرائيل استعدادها لتوقيع اتفاق مرحلي مع الجانب الفلسطيني، كان من نتيجته تشكيل سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني، في قطاع غزة وأريحا أولاً، وحين بُدئ في تنفيذ المراحل التالية التي كان من شأنها توسيع دائرة الحكم الذاتي في الخليل وغيرها من المدن الفلسطينية اغتال اليمين الإسرائيلي إسحق رابين، موقّع اتفاق أوسلو، ومن ثم انتخب «الليكود» وبنيامين نتنياهو لرئاسة الحكومة، وهكذا عاد اليمين ليحكم إسرائيل حتى اللحظة باستثناء أقل من ثلاث سنوات حكم خلالها العمالي_الرافض لأوسلو، أيهود باراك، والذي حشر أوسلو بالزاوية في كامب ديفيد وتسبب بإسقاطه بمواجهة العام 2000.
أي أن إسرائيل انحنت للعاصفة الداخلية _ الانتفاضة، ولرياح التغيير الكوني بعد انتهاء الحرب الباردة، ولم تكن غيرت قناعاتها تجاه الشعب الفلسطيني وحقه في الحرية والاستقلال، بحيث كانت السنوات التي تلت توقيع أوسلو وتحديداً بعد العام 2000 سنوات احتواء للسلطة ومنعها من التحول لدولة مستقلة.
الآن، كل الضغوط على إسرائيل من أجل أن توافق حكومتها على العودة لطاولة التفاوض مع السلطة الفلسطينية التي نشأت بعد أوسلو، أي بالاتفاق معها، وليس مع م.ت.ف، التي نشأت بقرار عربي أو بإرادة فلسطينية تحررية، بغض النظر عما يمكن أن تفضي إليه هذه المفاوضات، في ظل وضع داخلي فلسطيني منقسم وضعيف ولا يقاوم الاحتلال بشكل حاسم، ووضع داخلي إسرائيلي في غاية التطرف والتشدد، بات فيه حزب المستوطنين، الذي يجب أن يحظر دولياً باعتباره حزب الاحتلال، واعتباره ضمن قائمة الإرهاب، هو وجماعات تدفيع الثمن، نقصد البيت اليهودي، يقرر مصير الحكومة ويحدد سياساتها خاصة تجاه ملف الاحتلال.
ولا وجود يذكر لليسار الذي كان شريكاً في صنع أوسلو، بعد اغتيال رابين ورحيل شمعون بيريس وتقاعد وريثيهما، أيهود باراك ويوسي بيلين، لدرجة أن الحزب وفي محاولاته اليائسة للعودة للتنافس على رئاسة الحكومة بات يركز على البرنامج الاجتماعي، ولا يطرح بديلاً سياسياً تجاه ملف الصراع مع الفلسطينيين، لأنه يعرف أن الغالبية الشعبية في إسرائيل ضد التنازل عن الاحتلال والإقرار بالحقوق الوطنية للفلسطينيين.
إن هذه الغالبية التي تتنكر للحقوق الوطنية الفلسطينية تصنع التطرف في إسرائيل، وتختار عبر صناديق الاقتراع نواب الكراهية ورفض الآخر ودعاة الحرب، لذا لا بد من توفير العلاج المناسب قبل أن يتفشى المرض وتستفحل المشكلة، لكن ذلك بحاجة إلى طبيب ماهر وخبير، بالتأكيد ليس هو على شاكلة دونالد ترامب ولا بهيئة الرعديد بنيامين نتنياهو.
وما انتخابات حزب العمل، إلا محاولة من بعيد، لعل وعسى أن تساعد في وضع قدم إسرائيل على عتبة المستقبل، بصورة التعايش مع الجار الفلسطيني، وإخراجها من تراث الماضي الكريه ومن أوهام السطو المسلح، التي رافقت إقامة الدولة عام 1948.