المدرسة الفرنسية..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

يستحق الفرنسي أوليفيه روا ما يليق به من تقدير، فمن بين ما لا يحصى من الباحثين في شأن الإسلام السياسي، يمتاز روا (ولا ننسى جيل كيبل) بالقدرة على إغناء النقاش والبحث، وتوليد أفكار وفرضيات جديدة. ففي "الجهل المقدّس: زمن دين بلا ثقافة" سلّط الضوء على انفصال الظاهرة الدينية في العقود الأخيرة عن بيئتها الثقافية والقومية الأصلية، واختزالها في إيمان يتجاوز الحدود اللغوية والقومية والثقافية التي أنجبته.
وفي "الجهاد والموت" الصادر بالإنكليزية قبل أشهر قليلة (توجد ترجمة عربية للكتابين، وشكراً لدار الساقي) عالج الظاهرة الجهادية باعتبارها عدمية أولاً، ووليدة الزمن الحاضر، حتى وإن تقنّعت بلغة قديمة ثانياً، ودلالة على نوع من ثقافة احتجاج شبابية مشوّهة ومريضة ثالثاً. وكان عليه لمعالجة هذا كله التقليل من شأن مرافعات المظلومية، والتهميش، التي تصدّرت حتى الآن معالجات المعنيين بالأمر حتى الآن، دون إلغاء وجودهما بالكامل.
وبالمقارنة مع الباحثين الأميركيين يتجلى تفوّق المدرسة الفرنسية دائماً. فأغلب الأميركيين جاؤوا إلى حقل الدراسات الإسلامية، والإسلام السياسي، من خلفيات أمنية. لذا، تشبه إسهاماتهم الحوليات القديمة، المعنية بسرد الوقائع والأحداث، و"الحقائق"، وغالباً ما تنم عن جهل فاضح. فأحدهم، مثلاً، وكان من المشاركين في وضع مسوّدة الدستور العراقي الجديد، بعد الاحتلال، كرّس كتاباً كاملاً للتدليل على أوجه الشبه بين السلفية والبروتستانتية.
والأسوأ من هؤلاء العرب المتخرجون في المدرسة الأميركية، وهؤلاء ينقسمون إلى قسمين: الأوّل، يلعب على عقدة الذنب الكولونيالية، وجراح ما بعد فيتنام، ليجعل من العرب والمسلمين ضحايا فوق العادة، ويعفيهم من كل مسؤولية عمّا أصابهم. والثاني يلعب بفكرة التعددية لزعزعة كل احتمال للتمييز بين الثقافات والحضارات بمنطق التقدّم، والنزعة الإنسانية، والتجربة التاريخية. فالكل سواء، ومَنْ أنكر واستنكر وضعناه في خانة المركزية الأوروبية، والعنصرية اللعينة.
ومن سوء الحظ أن ميراث إدوارد سعيد النقدي تحوّل إلى ذريعة لدى هؤلاء. فنقّاد المركزية واللاعبون بالتعددية وعليها، يستشهدون به، ولكن بطريقة تلغي حقيقة مشروعه النقدي. فالفكرة الرئيسة في مشروعه أن الشرق كان مُتخيّلاً، وأن فعل التخيّل لم يكن ممكناً دون علاقة ما بين الخيال، أو إرادة المعرفة، والمصلحة في زمن التوّسع الكولونيالي، وأن المصلحة فرضت شكلاً وحدوداً للتخيّل.
ويغيب عن أذهان هؤلاء أن الفكرة السعيدية هذه تصلح، أيضاً، إطاراً منهجياً لتحليل ما يرونه عرباً وإسلاماً ومسلمين كعالم وكينونات مُتخيّلة يتم إنشاؤها في زمن تغلغل المال العربي في الأكاديميا الأميركية، والغربية عموماً، وفي زمن علاقة تبدو اليوم صريحة وفصيحة، بين كبار ممولي الجامعات الغربية، ومراكز البحث من جهة، وسوق المال والنفط والسلاح، من جهة ثانية.
ولنتذكّر، بصرف النظر عن موقفنا من الرواية، أن الفاعل الرئيس في "خضوع" لميشيل ويلبيك، يشتغل أستاذاً في الجامعة، التي انهالت عليها هبات "المتبرعين" العرب، لأسلمة التعليم، كجزء من مشروع استيلاء الإخوان المسلمين على السلطة السياسية في فرنسا. الأدب لا يشتغل على طريقة العلوم الاجتماعية، ولكن في مجرد توظيف الجامعة، والهبات، والمتبرعين، في عمل أدبي، بصرف النظر عن نوايا صاحبه، ما يشي بحقيقة أن أشياء كهذه توجد في الواقع، وتتجلى كخطر محتمل، أحياناً.
المهم، في سياق هذا كله، أن عدداً كبيراً من نقّاد العرب والإسلام والمسلمين في الأكاديميا الأميركية، والغربية، يصنّفون أنفسهم في خانة مؤيدي إسرائيل، وبهذه الطريقة يتسيّس السجال، وينتقل من حقول معرفية تستدعي مؤهلات كثيرة إلى حلبة لصراع سياسي لا يحتاج، في أحيان كثيرة، إلى أكثر من غرائز مشحوذة جيداً، وعصب نافر.
بعض ما يقوله هؤلاء يستحق التأمل، ولكن انحيازهم وتحيّزهم يقلل من صدقيتهم، ويحوّلهم في أحيان كثيرة إلى أكياس ملاكمة لعرب غاضبين. ومن نافلة القول التذكير بدلالة أن نسبة لا بأس بها من المُدافعين عن العرب والإسلام والمسلمين تصنّف نفسها، وتُصنّف، كمؤيدة للفلسطينيين. وبهذه الطريقة تصبح السياسة سيد الإحكام.
لكل هذه الأسباب تبدو المدرسة الفرنسية أفضل، ربما يعود الفضل إلى تاريخ طويل من الاستشراق، وعلاقة كولونيالية، وما بعد كولونيالية طويلة وممتدة بعالم العرب والإسلام والمسلمين، وتماس يكاد يكون يومياً معهم نتيجة وجود جاليات عربية وإسلامية كبيرة، من مواطني المستعمرات السابقة، في فرنسا، وربما إلى جانب هذا كله، يمارس النزوع الراديكالي في الثقافة الفرنسية (خلافاً للإنجلوسكسونية المحافظة) تأثيراً مباشراً على المخيال وإرادة المعرفة هناك. هذا لا يحوّلهم، بطبيعة الحال، إلى ملائكة، ولكنه يضفي عليهم خصوصية تستحق التنويه. ولنذكر دائماً جاك بيرك، ومكسيم رودنسون، بما يليق بهما من تقدير.
ولنعد إلى روا. الواقع أن الألماني، من أصول إيرانية، نفيد كرماني كان أوّل من تكلّم عن عدمية الظاهرة الجهادية قبل عقدين من الزمن. ومن المؤسف أن فكرة العدمية لم تحتل مكانة مركزية في مداخلات "الخبراء" العرب في شؤون "الجماعات الإسلامية" (بتعبير "الجزيرة" القطرية) والإرهاب والتطرّف (بلغة قناة "العربية" السعودية). وربما في الترجمة العربية لكتاب روا ما يعزز من فرص صعود مفردة العدمية إلى ما تستحق من مكان ومكانة في كل كلام محتمل عن الجهاد والجهاديين.
أما لماذا اخترنا التمثيل لأمر كهذا بفضائيتين فمردّه أن أغلب ما يستهلكه العرب والمسلمون من معلومات ومعرفة عن أنفسهم وعن العالم يأتي عن طريق التلفزيون، والإنترنت. وهذه التقنيات، وهي حديثة تماماً، هي واسطة ثقافة التمرّد العدمية، مصدر إنتاجها، وترويجها، وحقنها بالجهل المُقدّس. ولعل في كل هذا وذاك ما يستحق التفكير والتدبير.