بدءاً، يجدر توضيح أن آخر ما يخطر بالبال هو اقتراح «تحرير» قطاع غزة بالقوة من حكم حركة «حماس»، على غرار انتزاع حرية الموصل، بإخراج فلول تنظيم داعش من كبرى مدن شمال العراق، بعدما امتد ليل اغتصابها ما يقرب من ثلاث سنوات. أخيراً، حق قول النصر على خوارج عصرٍ طغى فيه فساد شرّ البرِّية وشاع، فطال أقاصي الأرض وأطرافها، حتى كاد أخيار الناس إذ يصبح أحدهم بنفسٍ تُسبِّح وتستبشر، فإن أغلبهم يمسون بأنفاسٍ تتعوّذ من شرور غمٍّ ليس يُطاق. كلا، ليس مطلوباً اقتحام غزة عسكرياً لإعادة وضع أمور القطاع في صحيح نصابها. إنما، تصحيح الأوضاع العرجاء أصبح، بحق، واجباً على كل مسؤول فلسطيني بين الأضلع منه بقايا وازع ضمير. إنها أوضاع باتت من السوء حتى أوشك الأصم أن يسمع صدى أذاها، وكاد الأعمى يبصر مآسيها، فما العجب إذا قيل إن القابلين باستمرارها هم نفرٌ يبغونها عِوَجاً، وإذ ذاك تراهم يمعنون في زرع ألغام الاعوجاج كلما لاح بريق شعاع صلح بات قاب قوسين أو أدنى؟
حقاً، لقد طال أمد تبادل لعبة تلويم طرفٍ لآخر في «ملعب» الانقسام الفلسطيني. أليست تكفيهم عشر سنوات كي يكفّوا شرور انقسامهم عن «شعبهم»؟ أم أن ركل كرة التصالح وتسجيل الأهداف متواصلٌ ما تواصل دعم الداعمين من الخارج، وتأليبهم المستجيبين لنهج ومصالح توجهاتهم في الداخل؟ إزاء استمرار هكذا حال مِعوَّج، لم يعد مستغرباً أن يسيطر وسواس «المؤامرة» على رؤوس أفواج من الناس، بعدما استعصى على العقلاء منهم العثور على جواب واحد مقنع عن السؤال: ما المبرر؟
سؤال محق. أيوجد بالفعل تبرير وطني لدى أي من القيادات المسؤولة عن استمرار انفصال قطاع غزة عن رام الله؟ كلا. أليس أن الأساس في كل برنامج للعمل الوطني، أن يتعامل بإحساس صادق مع حاجات الناس ومتطلباتهم. بلى. يحصل هذا حيثما يوجد ساسة وتوجد أحزاب تتنافس ببرامج لكسب ثقة المجتمع. مثلاً، لولا أن دونالد ترمب، رفع شعار «أميركا أولاً» وأرفق القول ببرنامج عاكسٍ لكيفية وضع الشعار موضع التطبيق، لربما لم يكسب معركة الوصول للبيت الأبيض، رغم أن مليارات رصيده المالي، وزخم قيادات الحزب الجمهوري، كانت تخوض السباق معه. ترى، هل أن قادة فصائل الانقسام الفلسطيني فشلوا في امتحان وضع «فلسطين أولاً»، في ضمائرهم قبل تحالفاتهم، وفي ممارسات على الأرض تسبق بيانات تملأ برامجهم؟ ألم يأنِ لأقوالهم أن تلتزم بصدق التعامل مع شعبهم، وأن يكفوا عن التلاعب بالعبارات، والأهم أن يدركوا غيظ الناس المكظوم لدرجة الاختناق، وأن داخل الصدور يتكوّم بركان غضبٍ كأنه جبلٌ من الحنق، لعله إذا انفجر، سوف يثبت لقادة الفصائل كلهم، أنه أشد من لهب قيظ كل صيف مضى؟
على رغم كل ما حصل من مآسٍ طوال العشر سنين الماضية، لم ينفد الوقت بعد. لم تزل أمام قيادات الانقسام الفلسطيني فرصة إثبات أنها صادقة العزم، أولاً، على طي صفحة انقلاب «حماس» وما تلتها من صفحات غشاها ليلاً مكرُ طرفٍ، فقابله فجراً دهاءُ الطرف المقابل. بلا صفاء نيّات لن تلتقي القلوب، ولن تُنقى الضمائر. يصدق هذا، أساساً، في علاقات البشر اليومية، حتى داخل العشائر والعائلات، فكيف لا ينطبق على التعامل بين ساسة تحمل رقابُهم مسؤولية مستقبل شعب بأكمله، كما حال الفلسطينيين؟ بلا جدال، ينطبق عليهم قبل غيرهم، إلا إذا عدّوا أنفسهم فوق كل الناس، وهذا مُحال.
يجدر القول هنا إن دول الجوار العربية يجب أن تبادر، من جانبها، فتمد أيادي العون للجمع بين «الإخوة الأعداء». الوضع في قطاع غزة، تحديداً، يزداد سوءاً كل يوم، خصوصاً بين الشباب. في هذا الصدد بوسع كلٍ من مصر والأردن، تقديم عونٍ مهم. لكن ذلك العون ذاته لن يثمر إن لم يُعن قادة الانقسام الفلسطيني أنفسهم على تجاوز كل أسباب استمرار هكذا انشطار. أول خطى طريق التصالح الحق تبدأ بأن تعود غزة إلى رام الله، عودة الجزء إلى الكل، بالرضا والقبول، وليس كما عادت الموصل للعراق، بثقيل السلاح ودوي القنابل وأكوام الجثث. تُرى، هل أن التعقّل الفلسطيني لم يزل ممكناً، أم صار هو أيضاً أضغاث أوهام؟
عن الشرق الأوسط