■ بعد طول شكوى من بطالة خريجى الجامعة، وبعد الطنين الزائد بأهمية الاستفادة من التجربة الألمانية فى التنمية، وضرورة التوجه للتعليم الفنى، جاء إعلان أوائل الثانوية العامة ليؤكد أن الدولة استطاعت أن تصل لمبتغاها من أقصر الطرق.
فلقد خرج الأوائل يقرون بواقع الحال، وبأنهم لم يرتادوا المدارس، فهى على حد قولهم لم تكن ذات فائدة، وكان البديل اعتمادهم الكامل على الدروس الخصوصية، التى تحدث أهاليهم عن إنفاق «دم قلبهم» على هذا البند وحده.
من 40 إلى 50 ألف جنيه كانت تكلفة الدروس لكل طالب هذا العام، ولنا أن نتصور كم من المصريين سيكون قادرا على توفير هذه المبالغ لأبنائه أو لأحدهم على أقل تقدير، فلم تعد «الشهادة» ببلاش، بل لم يعد للفقير أو معدوم ومحدود الدخل مكان ولا فرصة ليفكر فى الحصول على القدر الكافى من التعليم.
وهو ما يعنى أن من معه المال يملك فرص التعليم كاملة، ويملك معها فرصة التطور والصعود الاجتماعى، ويبقى الباقون فى أدنى السلم دون حراك يُذكر، ليُسطر من جديد مجتمع النصف فى المائة، ولا عزاء فى ذلك لدستور يساوى بين الجميع فى الحقوق، ويؤكد أن التعليم حق أصيل لكل فرد.
فلقد سلم أولياء الأمور بأن الدولة لم تلتزم بما عليها تجاه مواطنيها، كما سلموا بأن الدستور نفسه أصبح مجرد بنود مسطرة على الورق، ولا فرصة فى أن يتحول إلى واقع، وسلموا قبل هذا وذاك بأن تسيير ظروف الحياة أصبح مسؤوليتهم وحدهم، بعد تراجع الدولة المثقلة بأعباء أخرى قد تكون أهم!.
لكن الدولة بذلك هى أول مَن سيدفع الثمن، فالمبالغ التى يتم رصدها لبند الدروس الخصوصية لا تذهب للحصول على جودة أعلى أو كفاءة أكثر ولا لإعادة صياغة المكون البشرى ليكون جاهزا لسوق العمل أو لتحديات المستقبل، فهذه رفاهية لا مجال للحديث عنها فى إطار مجتمع لم يحدد أولوياته ولا خططه للمستقبل ولا مشروعه الحاضر.
فهذه المبالغ تذهب فقط لاجتياز مانع «الثانوية العامة» بمجموع يؤهل لدخول إحدى الكليات، وهى بمعنى أدق تذهب لحشو المعلومات فى أدمغة الطلبة، ولا غرابة بعد ذلك ألا يرتبط التفوق بالنضج العقلى، ولا بالتميز الإنسانى.
ولا يكون غريبا أو مستغربا، والحال كذلك، أن كليات القمة هى الحاضنة المميزة لنمو الفكر المتطرف، وأن الأوائل فيها هم وقود هذه الحركات وكوادرها، فتفوقهم لا يعنى إلا تميزا فى التلقى وقدرة على الاسترجاع، ولا علاقة له بعقل توليدى أو ذهن نقدى.
وهذا جزاء الدولة عندما تخلت عن دورها فى وضع برنامج لإعادة صياغة الفكر والشخصية المصرية، ولابد من تعزية مصر وأجهزتها وحكومتها فى مستقبل تم وأده، وتم استنزافه قبل الولوج إليه، وذلك بعدم الاهتمام الذى يليق بأهم وأولى وسائل تحقيق ذلك، وهى المؤسسات التعليمية، التى أعلن الأوائل هجرتها، وأعلنوا معها رسوب الدولة وأجهزتها مع إعلان نتائج الثانوية العامة.
عن المصري اليوم