منذ العام 1948 والشعب الفلسطيني يسجل واحداً من أهم إنجازاته التاريخية المتواصلة، متمثلة بحرص الآباء على تعليم أبنائهم، أياً كانت الظروف، ومهما كانت المعيقات والعوائق، فالدافع إلى ذلك متجذر منذ نحو سبعين عاماً، حين حدثت النكبة وكان معظم شعبنا من الفلاحين، حيث كان أغلب أرض فلسطين قبل الانتداب البريطاني عبارة عن "وقف إسلامي" أو يعتبر أملاك دولة، بسبب نظام الحكم العثماني الإقطاعي الذي سبقه، حيث كان أجدادنا يعملون بنظام الاستئجار، في أرض هي ملك للباب العالي في الأستانا، وحين سلبت الأرض وتم احتلالها وهجّر سكانها، أي غالبية الشعب الفلسطيني من قراه ومدنه، وإن كان معظمه لجأ إلى أقرب مكان آمن، وكان من حسن الحظ داخل فلسطين التاريخية في قطاع غزة والضفة الغربية.
وجد اللاجئون الفلسطينيون الذين كان آباؤهم فلاحين وأميين في نفس الوقت، ملاذاً لهم، في التعليم، ووجدوا فيه خلاصاً مزدوجاً، أولاً كإحدى أدوات الكفاح ضد الاحتلال، الذي تفوّق عليهم بالقوة والعلم والتعليم، واحتل أرضهم لأنهم كانوا فقراء وأميين، أي غير متعلمين، لا يعرفون شيئاً عن ألاعيب السياسة ودهاليز الحكم، وثانياً طريقاً للخروج من الفاقة والفقر المدقع، وكان أن صادف نكبة فلسطين ظهور النفط في صحراء العرب القاحلة، فكان الذهاب إلى الكويت ومن ثم للسعودية وقطر، ثم الإمارات وعُمان، فرصة لخريجي الثانوية العامة في ستينيات القرن الماضي، ثم لخريجي الجامعات بعد ذلك، للعمل في تلك الدول العربية الغنية والتي كانت لا تزال بحاجة إلى معلمين لتعليم أبنائها ثم لمهندسين وأطباء لتعبيد طرقها وإنشاء عماراتها وعلاج مرضاها، فكان الفلسطينيون خير سفير لبلدهم إلى الدول الشقيقة.
عقود قليلة تلت النكبة عام 1948، وكان الشعب الفلسطيني يسجل أعلى نسبة تعليم في المنطقة، فقد وجد شعبنا بعد أن فقد أرضه في التعليم تعويضاً له، ومجالاً للتفوق واثبات الذات، وهكذا توالى الأمر حتى بعد إكمال إسرائيل في العام 1967، احتلالها لما تبقى من الأرض الفلسطينية في القدس وقطاع غزة والضفة الغربية.
لتنطلق عشيتها وبعدها مباشرة الثورة المعاصرة من قبل مناضلين وطنيين ممن التقطوا راية الكفاح وهم على مقاعد الدراسة الجامعية، حيث بدأت القناعة تتشكل بأن العلم والتعليم بالنسبة للفلسطيني ما هو إلا أداة لكسب المعركة الوطنية، وأن العلم والتعليم له هدف وطني وليس بالنسبة للفلسطيني غاية شخصية وحسب، وكان أن بدأ الرواد الوطنيون الأوائل، ومنذ نهايات خمسينيات القرن الماضي بتشكيل اتحاد الطلبة في القاهرة، الذي كان بمثابة حاضنة النواة الأولى لقيادة العمل الوطني، ثم بمثابة مصنع للكادر الوطني وأحد أهم أذرعة وروافد الثورة الفلسطينية طوال عقدي سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
هذا العام، عمّت الفرحة، أول من أمس، ربوع دولة فلسطين المحتلة من القدس إلى غزة إلى مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية، بمناسبة ظهور نتائج الثانوية العامة، والتي كانت مهمة _برأينا_ لأكثر من سبب، فهي ما زالت مظهراً من مظاهر توحيد مثلث الدولة الفلسطينية، حيث إن أكثر من سبعين ألف طالب ثانوية عامة، يجتمعون أمام امتحان واحد وموحد، بل إن المنهاج الفلسطيني الذي يدرسه ويتعلم وفقه شباب مستقبل فلسطين _الآن_ هو أهم ضمانة لتوحيد شعب دولة فلسطين الذي يواجه تحديات وحدته من قبل محاولة تهويد القدس وفصل غزة.
فيما جاء "توجيهي" هذا العام وفق نظام الإنجاز العصري الذي تقدّم بالاهتمام بالتكنولوجيا وكذلك بمنح الفرصة الإضافية من خلال دورتين لتحسين المعدل العام للطالب أو استكمال بعض المواد.
وقد لوحظ أن أوائل الطلبة جاؤوا من القدس وغزة والضفة، وأن الفارق بين الأول والعاشر على ثانوية فلسطين لهذا العام كان أعشاراً من الواحد بالمائة، فكل أوائل العلمي والأدبي كانوا ما بين 99,1% _ 99,7 %، ولوحظ أيضاً أن نسبة النجاح رغم أن بعض الطلبة كانوا عبّروا عن صعوبة امتحان الرياضيات، قبل نحو شهر، فاقت الثلثين أو 67%، وأن أوائل العملي والأدبي كانوا أكثر من عشرة طلاب في كل قسم، بل إن التكرار كان سمة غالبة، فقد شغل 16 طالباً المقاعد العشرة في العلمي (الأول مكرر 3 مرات، الرابع مكرر 6 مرات، والعاشر مكرر 7 مرات)، والأدبي 12 مرة، تكرر فيها الثاني 6 مرات، والثامن 5 مرات، ما يؤكد درجة التنافس بين طلابنا الذين يولون دراستهم وتحصيلهم العلمي كل الجدية والاهتمام، كما لوحظ أن نسبة الطلاب الذكور فاقت الإناث الأوائل في العلمي 11 مقابل 5، فيما تفوقت أوائل الأدبي الإناث حيث شغلن المقاعد الإثنى عشر بالكامل، دون أن ينجح طالب ذكر واحد في احتلال مقعد من العشرة الأوائل في الفرع الأدبي!
بعد الثانوية العامة يتطلع كل الطلبة إلى الجامعة ويحتار معظمهم لأي كلية ينتسب، فالانتساب للجامعات يقرره أمران لا بد من تغييرهما _برأينا_ هما المعدل، فالحائز على معدل عال تنفتح له الخيارات كلها، كذلك الثقافة المجتمعية التي ما زالت تدفع الطلاب لدراسة الطب والهندسة، لذا لا بد من تدخل قصدي للدولة (أي السلطة) أولاً بتخصيص المنح للموهوبين وليس فقط للمتفوقين بالإنجاز، خاصة للفقراء، ثم ربط التعليم الجامعي بالتخطيط، لتحدد احتياجات المجتمع الفلسطيني من كل تخصص، ثم ضمان الاستقرار النفسي للطالب في المرحلة الجامعية بضمان أن يجد له مكاناً في سوق العمل بعد التخرج، وإلا فإن كل السنوات التي يقضيها الإنسان الفلسطيني على مقاعد الدارسة ستغدو دون هدف، بل وبلا جدوى، حين تنتهي بتكدس الخريجين في سوق البطالة، وتحويلهم إلى عبء في نهاية المطاف يثقل كاهل الوطن والمجتمع، فيؤجل لحظة التحرير ويعطّل عجلة البناء والتقدم.
متي ستصوت دولة فلسطين لنفسها؟
22 سبتمبر 2024