القدس قبلة التاريخ المعتق ..!

أكرم عطا الله.jpg
حجم الخط

حتى في منافساتهم الداخلية وتبرير القمع والانقلابات لم تعد القدس كما السابق أرض الحنين بالنسبة للعرب والمسلمين الذين ملؤوا الدنيا ضجيجاً وهم يعدون العدة لتحريرها، «متنافخين شرفاً» كما قال ذلك الشاعر العراقي، بل بقيت وحيدة كتاريخها الدامي، فلا صلاح الدين ولا أهل الدين ولا أصحاب العروبة الذين تغنوا بمجدها قبل السقوط عند أولى الاختبارات وأولى القبلتين.
إنها قدس الأقداس التي أصيبت باليتم في زمن تحولت فيه القومية إلى مادة البقاء في الحكم وتحول فيه الإسلام إلى أداة للصراع على السلطة، تلك الغريزة التي قطعت أوردتنا وأسكتت الأذان في الأقصى، لم تجد سوى بعض الفتية الذين آمنوا بقدسهم بعد سقوط قلاع العرب والمسلمين، فتية مجردون من كل شيء سوى الإيمان بعدالة قضيتهم حتى لو تمت رشوة قاضي التاريخ.
لم تكن عملية الأمس والتي سيكون لها تداعيات سلبية باتجاه زيادة غرس الأنياب في اللحم الحي للمدينة ودفع وتيرة السيطرة والتهويد سوى صرخة شمشونية أرادت هدم كل المعابد بعد أن أصابها اليأس من هذا التمدد الاستيطاني في مدينة الله على الأرض وهي ترى الزمنين العربي والإسلامي يصابان بالاصفرار حد الذبول تمهيداً للاتكاء على الإسرائيلي، وكيف يمكن الدفاع عن ثاني القبلتين فيما الأولى ترسخ في قيود وجيوش وبوابات تحوّلها من مدينة الصلاة إلى معسكر جيش و»غيتو» وثكنة عسكرية إلى الدرجة التي تفاجأنا بصرخة فتيان: إن هناك جنوداً داخل الحرم؟!
لن تغير العملية مسار الصراع بل أصبح كل الفعل الفلسطيني كأنه بلا جدوى في ظل حالة التخبط والتفتت التي تراوح بها الحالة الفلسطينية، فالعمل المسلح هو تتويج لصلابة أي وضع، وفي حالتنا ليس من المصادفة أن نتائجه جميعها في السنوات الأخيرة باتت عكسية؛ لأننا خذلنا كل شيء بما نقدمه يومياً من أداء أفرغ من كل المضامين ومن كل البرامج وقد يبدو السؤال جارحاً إذا ما قلنا: ما هو برنامجنا اليومي في القدس؟ وكم هو جارح أكثر الاعتراف بأن القدس ليست أكثر من صندوق انتخابي للفصائل عندما تحين اللحظة.
ليس مطلوباً من فلسطينيي الـ48 أن يذهبوا نحو العمل المسلح فهذا ليس دورهم ولا هي مهماتهم ولا هو الشكل الأمثل للتعبير عن ذاتهم؛ لأن كل ما هو مطلوب منهم هو الحفاظ على الذات .. الدفاع عن وجودهم والتمدد بهدوء في بطن الحوت الإسرائيلي لا استفزازه للقيام بعملية جراحية .. ولا تقديم مبررات وقف تمددهم في لحظة انفعال لها ثمنها على المدى الإستراتيجي في الصراع المفتوح والذي ترفض حكومات اليمين في إسرائيل إغلاقه.
إن ورقة فلسطيني الـ48 هي الورقة الأبرز بين الفلسطينيين والتي تعترف دولة إسرائيل بعجزها عن إيجاد حل لها وقد عُقدت ما يكفي من مؤتمرات للبحث عن حلول، لذا تكثف كل جهودها في الحديث عن يهودية الدولة في مواجهتهم، على الرغم من أن الدولة لم تتوقف عن التفكير والفعل ضدهم بهدف الحد من وجودهم وتكاثرهم الذي تتابعه أخطر مراكز الديموغرافيا في الدولة.
سيناريو سفينة العبيد هو سيناريو وضعته الدولة في نهاية تسعينيات القرن الماضي لشكل الدولة التي ستضم بعد خمسة عقود، أي في الذكرى المئوية الأولى لإقامتها ستضم أكثر من ثلث السكان من العرب وما الحل؟ أي أن إسرائيل لا تغمض عيونها وهي تفكر فيما أسمته بالقنبلة الديموغرافية التي تتكتك في قلب الدولة. وهنا تأتي العملية خارج السياق التاريخي للتطور الهادئ للصراع وتعمل على تسريع صدام من المبكر فتحه وتوفر قوة للمطالبين بالتبادلية السكانية والإسراع بالتخلص منهم، وتلك أزمة إسرائيل الكبرى التي يجب عدم العبث بها.
العملية نفذها شبان من أم الفحم وهم بالأساس مواطنون إسرائيليون انطلقوا من إسرائيل واجتازوا كل الحواجز داخل إسرائيل، وبالتالي لا دخل للسلطة بهذه العملية والتي يمكن أن تتجرد من التدخل؛ لأن العملية نظرياً هي أن مواطنين إسرائيليين قتلوا مجندين إسرائيليين، هكذا الأمر رغم كل التعقيدات وكل التخويف الذي يمارس ضد السلطة، لذا فإن الإسراع في إدانة العملية من قبل الرئاسة لا لزوم له؛ فهم ليسوا مواطنين فلسطينيين ولم ينطلقوا من مناطق السلطة ولا المناطق التي حددتها أوسلو (أ)، و(ب)، و(ج)، فلماذا هذا الاندفاع وكأننا مسؤولون عنها؟
إنها ليست أكثر من صرخة ألم من قبل مواطنين مسلمين لم يحتملوا ما تفعله إسرائيل في القدس من تهويد وسرقة واستيطان ونشر جيش مسلح وكاميرات وكتل أسمنتية في مدينة الأضل أنها مهد الأديان مفتوحة لجميع البشر والديانات.. هم يراقبون حجم التغول والتقسيم المكاني والزماني وتحويلها إلى مرتع للمستوطنين غير آبهين باحترام الديانات، بل إن مشهد جنود الاحتلال داخل باحات الأقصى هو مشهد يثير مشاعر الاستفزاز بالنسبة للمسلمين والناس تدافع عن دينها وعلى إسرائيل أن تدرك ذلك.
إن ما تفعله إسرائيل مناف للطبيعة ومخالف لما يجب أن تستقر عليه المنطقة من حل الدولتين، والذي يعيد القدس تحت السيطرة الفلسطينية ومعها حائط البراق أيضاً، وهذا الأمر الوحيد الكفيل بنزع فتيل التوتر في المنطقة إذا كانت إسرائيل معنية بالاستقرار، ولكنها غير ذلك وهذا ما يجب أن يفهمه العالم والمواطن الإسرائيلي.
هذه هي القدس، هي القلب والدم الذي يسري في العروق، هي نافذة التاريخ المعتق في خوابي الروح الفلسطينية التي لا تجد نفسها بغير القدس، وإذا لم تجد من يدافع عنها من العرب والمسلمين فلها أبناؤها الذين قضى جزء منهم في سبيلها ومنهم من ينتظر ولن يبدلوا تبديلاً، على إسرائيل أن تفهم ذلك وأن تقرأ كل آيات الكفاح الفلسطيني .. إنها القدس..!