بعد مُضي عشرين عاماً على إطلاق مشروع «البرلمان الفلسطيني الصوري» في عام 1997، يُطلِق مركز المرأة للإرشاد القانوني والاجتماعي الكتاب الذي وثّق التجربة بأقلام بعض من خُضْنها، في احتفال ذكَّر بالتجربة النسوية الأولى من نوعها، النجاة بعد الدخول في الزجاج بشجاعة نادرة.
لم تشهد الساحة الفلسطينية تجربة مثيلة تركت أثراً عميقاً بعيد المدى على المجتمع الفلسطيني، فلم يتوقف المجتمع عن استعادة ذكريات الهزّة التي أحدثتها إثارة النقاش حول القوانين السارية ذات الصلة بالمرأة، حتى اليوم.
فتحت التجربة عيون كل من شارك بها على الواقع الحقيقي الذي شكَّلنا تصورات مختلفة عنه، رسمنا توقعات متباينة عنه، وضعنا تصورات وافتراضات وإسقاطات إرادوية عليه. أزال البرلمان الصوري الغمامة المثالية عن الواقع التي لطالما تظللنا بها. أسقطت التجربة الأحلام المنسوجة عن فرضية تسامح المجتمع مع مطالب المناضلات.
لم تكن عملية التوثيق بالمهمة السهلة، فيها من المشاعر والمعلومات والدروس؛ كمٌ كبير. حيث أخضعت التجربة للدراسة والتدقيق والتقييم من قبل المركز والمؤسسات النسوية المشاركة ومن قبل الأحزاب السياسية بهدف استخلاص الدروس والعبر والمسار.
وللتذكير بالمجريات، بدأ مركز المرأة في تحضيراته 1994 لدى استشرافه أن طبيعة المرحلة الجديدة بعد تشكُّل السلطة الفلسطينية تحمل فرصاً هامة لتغيير علاقات وهياكل النفوذ والقوة، فرصة أمام التأثير في مسار الإصلاح القانوني، فرصة نحو صياغة تحالفات تجمع الحركة النسوية بالقوى الديمقراطية ومنظمات حقوق الانسان للدفع بأجندة العدالة الاجتماعية ومنظومة حقوق الانسان، ضمن بيئة توفِّر الحوار الديمقراطي وإدماج البرنامج والخطاب النسوي في الخطاب الوطني الاجتماعي ومأسسة مكانة المرأة وحقوقها القانونية.
على أبواب الانعطافة الكبرى وُلدت فكرة البرلمان الصوري، أطلقت آمالاً عريضة ورفعت سقوفاً عالية، اعتقاداً بحق الفلسطينيات في قطف الثمار على شكل اعترافات وصياغات قانونية ومقترحات تصل بها إلى مبدأ المساواة بين الجنسين وفق ما نصَّت عليه وثيقة الاستقلال.
تم تجسيد الفكرة بأفق ديمقراطي، تشكيل برلمانات يتناصف فيها الرجال والنساء المقاعد بالتناصف، مع توسيع نطاقها الجغرافي افقياً بشمولها جميع المحافظات، التعمق بمحتواها ودلالاتها عمودياً؛ عبر إثارة النقاش حول القوانين السارية ونشر المعرفة بالصياغات البديلة، طرح المقترحات الأفضل التي من شأنها تحقيق المساواة، إحداث نقلة بالوعي الحقوقي وتشكيل قاعدة فكرية، مقاربة القوانين مع ما تتيحه المواثيق الدولية وقياس المسافة والعلاقة بينهما، حشد التأييد بواسطة الأدوات الاعلامية المتوفرة، فتح الأنشطة أمام الجمهور دون تحفظ وأجندات خفية.
فُتِحَت عضوية البرلمانات أمام جميع القوى دون تمييز، انضوت جميع القوى السياسية والاجتماعية بما فيها الاتجاه الاسلامي والتي شاركت في التدريبات والندوات ونقاش المقترحات، كما اطلعت البرلمانات الفرعية على التعديلات ووافقت عليها بقناعة تامة وصولا للبرلمان المركزي. وللحقيقة لم يكن ثمة خلافات تُذكَر بين الاتجاهات المختلفة على النصوص المطروحة، بل توحَّد الجميع عليها ووجد مصلحة في إقرارها، حيث اُعتبرت أنها تلبي الاحتياجات والمطالب.
المفارقة، النساء عامة لا يختلفن حول الموقف الرافض للتمييز. اتفقت البرلمانات على قاعدة مصالحهن المشتركة، أهمية تعديل القانون المتقادم وانفصامه عن الواقع، حق الطلاق وحضانة الأطفال وسن الزواج وحقوق المرأة العاملة ويتفقن على رفض تحصين قتلة النساء بالعذر المخفف للعقوبة. ويبقين منسجمات حتى اللحظة التي يشنّ الاتجاه الاسلاموي والتقليدي هجومه الشرس ويمارس الترهيب الفكري. وهو ما وقع، التشهير بالقائمين على البرلمان وأعماله من على منابر المساجد، بحجة الاعتداء على أصحاب الاختصاص واختراق الخصوصية الثقافية والخروج عن الشريعة.
لم يتعامل الاتجاه الإسلاموي مع البرلمان باعتباره صوريّاً، بل نظر إليه كبرلمان حقيقي، أرعبهم اتساع نطاق المشاركة واستقطابه النساء بما فيها الاتجاه الذي يمثله. فيما بعد، أقرت النساء المشاركات من حركة «حماس» بأن البرلمان الصوري سرَّع في تشكيل رابطة المرأة الاسلامية.
لم يبنِ الاتجاه السلفي اتهامه بناء على ما قدمه البرلمان في إعلاناته عن تعريفه لنفسه وأهدافه المعلنة بأدبياته، لم ينظروا للمشروع على أساس كونه مشروعا مؤقتا وصوَريّاً، بل اعتبروه تهديداً لصلاحياتهم في احتكار النقاش وحصره بمن يُطلق عليهم: أصحاب الاختصاص. ولكي يُثار الرأي العام عمدوا إلى تلفيق المقتضيات، هجوم وتكفير وكيل التهم جزافاً: تغريب الثقافة واختراق الخصوصية الثقافية والخروج عن مبادئ الشريعة.
للموضوعية، في نقاش الدروس المستقاة من التجربة، لا بد من التعرض إلى نصفي الكوب، الفارغ والمليء، حيث خيضت التجربة دون تحالفات مسبقة مع القوى السياسية كما لم يتم وضع خطة تعامل مع أزمة محتملة وهجوم القوى الأصولية كافتراض متوقع الحدوث.
في المحصلة، رجحت كفة الايجابيات، حيث نُقِل النقاش الاجتماعي والحقوقي من الغرف المغلقة إلى الفضاء الواسع، رفع النقاب عن موقف التيار الأصولي المعادي لحقوق المرأة، كَشْف مبكر عن سياسة استخدامه الدين لترهيب المجتمع ووضعه القيود على حرية النقاش وتوسيع مفهوم أصحاب الاختصاص. كما انتزع مكسب إخراج القوى الديمقراطية من حالة الحياد والصمت. وعلى رأس الايجابيات المتحصلة، يبقى البعد الشعبي لحملة البرلمان الصوري هي المعلم المميَّز الأهم، إلى جانب تكريس دور المجتمع المدني والممارسات الديمقراطية في المجتمع.
وفي الختام، لا يمكن استذكار التجربة برمتها، حلوها ومرّها، دون الدعاء لروح «مها أبو ديّة» بالسلام، التي نفثت نفسها الأخير مع توقيعها على السطر الأخير في الكتاب.