غزة والحركة الوطنية الفلسطينية

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

صدر عن دار الشروق، مطلع هذا العام 2017، كتاب "غزة والحركة الوطنية الفلسطينية"، للإعلامي والدبلوماسي الفلسطيني حسان بلعاوي، وكان الكتاب صدر أول مرة في باريس باللغة الفرنسية. يقع الكتاب في 224 صفحة من القطع المتوسط، ويتوزع على تسعة فصول، تضم 48 عنواناً فرعياً، تبدأ من تاريخ غزة القديم، منذ فترة الكنعانيين وصولاً إلى أعتاب العدوان الإسرائيلي على غزة نهاية العام 2008.
يقدّم الكاتب غزة من جوانب عدة، مؤكداً أنها من بين أقدم مدن العالم، وأنها بموقعها الإستراتيجي (الجسر البري الوحيد الذي يصل قارتي آسيا وأفريقيا).. تمثل بوابة الأمن القومي المصري، منذ كانت قلعة متقدمة للفراعنة لصد الغزوات القادمة من آسيا. منها عبرت جيوش الفاتحين، لكنها أرهقت كل الغزاة.. جرحت الإسكندر المقدوني، وبهدلت نابليون.
يستعرض بلعاوي الأحداث والوقائع التاريخية التي حدثت في فلسطين عامة، أو في غزة تحديداً، مسقطاً إياها على الوضع السياسي القائم، من خلال عرضه وتفسيره لتلك الأحداث بالاعتماد على تجربته الشخصية والمهنية التي اكتسبها طوال مسيرته النضالية في المؤسسات الفلسطينية.
الكتاب مزيج من السرد التاريخي المختصر والتحليل السياسي الذي يقدمه بموضوعية وحياد، وهو في كثير من أجزائه موجه لمخاطبة الرأي العام الغربي.
فكرتان أساسيتان يقدّمهما الكتاب، غاية في البساطة، لكنهما دامغتان بدرجة مدهشة.. الأولى، أنَّه لا سلام ولا استقرار ولا أمن في منطقة الشرق الأوسط وضفتي البحر المتوسط دون تحقيق الأهداف الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، المتمثلة في حصوله على حقه في تقرير المصير، وإقامة دولته المستقلة..
الفكرة الثانية، وهي أيضاً مهمة، هي أنّ المشروع الوطني الفلسطيني لا يمكن أن يكتمل أو يتحقق دون غزة؛ فغزة التي تشكل فقط 1.3% من مساحة فلسطين، هي التي شكلت منذ نكبة فلسطين الأولى العام 1948 الساحة الرئيسة التي تحددت فيها ملامح المشروع الوطني الفلسطيني، وهي التي حمت الهوية الوطنية الفلسطينية، وهي من أهم الساحات التي شهدت انطلاقة الثورة الفلسطينية، وضمّت مكونات المشهد السياسي الفلسطيني بأكمله، والذي يمتد إلى بقية الساحات الفلسطينية داخل وخارج الوطن.. وعلى سياج المنافي والشتات، وبالتالي لا أمل بحل القضية الفلسطينية دون غزة.
ويبرهن بلعاوي نظريته من خلال استعراضه الموجز للحقب التاريخية التي مرت بها فلسطين، منذ زمن الكنعانيين، مروراً بإمبراطوريات الفرس واليونان والرومان ثم الحقبة المسيحية وانتهاء بالفتح الإسلامي، دون أن ينسى حقبة الحروب الصليبية وصلح الرملة، ودور غزة وأثرها الحاسم على مسار الأحداث في كل حقبة تاريخية.
ويكمل فكرته باستعراض أهم الأحداث التي سبقت وهيأت للنكبة.. وأثر النكبة في التغير الجذري على غزة، خاصة الزيادة السكانية الهائلة نتيجة لتدفق اللاجئين، والتي غيرت التركيبة الديموغرافية والاجتماعية للقطاع، وما فرضه ذلك من وقائع جديدة، ووقائع عقد أول مجلس وطني فلسطيني برئاسة الحاج أمين الحسيني، ودعم إنشاء حكومة عموم فلسطين كأول محاولة كيانية فلسطينية.
ثم تناول حقبة الخمسينيات والستينيات، والتي شهدت الاحتلال الإسرائيلي الأول للقطاع، إثر العدوان الثلاثي على مصر العام 1956 مركزاً على تجربة المقاومة الشعبية وعلى الرفض الشعبي لتدويل قطاع غزة، مع عرض خارطة للقوى السياسية والاجتماعية التي كانت سائدة آنذاك، شارحاً تأثير "الإخوان المسلمين" و"الشيوعيين" و"القوميين" في إنضاج فكرة الكيانية الفلسطينية، وكيف خرجت من رحم الحركة الوطنية الطلائع الأولى المؤسسة لحركة "فتح"، كما تناول تأسيس رابطة الطلبة الفلسطينيين في القاهرة مطلع الخمسينيات التي شكلت إحدى الحاضنات الرئيسة لولادة الفكرة الوطنية الفلسطينية.
قدّم الكاتب قراءة لتطور المشروع الوطني الفلسطيني بدءاً بتأسيس منظمة التحرير، وانطلاقة فتح، مروراً بمعركة الكرامة 1968 وحتى خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان عام 1982 ثم عودة الثقل النضالي الفلسطيني للداخل المحتل واشتعال الانتفاضة الأولى من مخيم جباليا أواخر العام 1987 وما صاحب ذلك من "هجوم السلام" الفلسطيني والذي تجسد بدورة الاستقلال في المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر العام 1988، وصولاً لحرب الخليج الثانية، وما نتج عنها من مؤتمر مدريد للسلام، والذي قاد إلى اتفاق أوسلو العام 1993.
يلقي الكتاب الضوء على مرحلة إنشاء السلطة الوطنية، خاصة في بداياتها في غزة، وما رافق ذلك من محاولة الانتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية، مع قراءة للمعادلة الصعبة التي حكمت النظام الفلسطيني الوليد بمحاولة الانتقال من حركة تحرر وطني إلى بناء مؤسسات دولة في ظل تجربة فريدة من نوعها في تاريخ الشعوب الواقعة تحت الاحتلال تتمثل في إنجاز مهمتين في آن واحد: البناء واستكمال مهام التحرير.
كما تناول الكتاب اندلاع الانتفاضة الثانية، والتغير الجذري الذي فرضته، مروراً بحصار الرئيس ياسر عرفات واستشهاده وأثر ذلك على مجمل النظام الفلسطيني، ثم انتخاب محمود عباس رئيساً، وانسحاب إسرائيل من قطاع غزة وصولاً إلى فوز حركة "حماس" في انتخابات الدورة الثانية للمجلس التشريعي مطلع العام 2006.
يشرح بلعاوي طبيعة وأسباب أول فوز للحركة الإسلامية في المشرق العربي وأبعاده، مع استعراض سريع للتجربة القصيرة لحكومة الوحدة الوطنية، ثم الانقسام وسيطرة حركة "حماس" على غزة..
ينتهي الكتاب عند سنة 2008، أي قبيل العدوان الإسرائيلي الأول، لكنه يتنبأ به، استناداً إلى فهمه وتحليله مكونات المشهد السياسي في غزة في تلك المرحلة، والتي ما زالت قائمة إلى الآن.
يحتوي الكتاب على الكثير من المعلومات والحقائق التاريخية، وعلى سرد للأحداث التي جرت في المنطقة خلال الفترات الزمنية التي تناولها الكتاب.. بعض هذه المعلومات بديهية، وبعضها جديد، أو على الأقل غير معروفة للباحث المتخصص.
يبدو الكتاب أحياناً بلا منهج، حيث يتنقل الكاتب بين المواضيع، والأزمان.. أو يعلق على حدث ما بشكل قد يبدو خارج السياق.. لكن ما يفسر ذلك، أن الكتاب كان في بدايته عبارة عن حوارات صحافية أجراها الكاتب مع صحافيين فرنسيين، ثم جرى تجميعها وتبويبها مع بعض الإضافات، وحذف ما هو غير ضروري حتى خرج على شكل كتاب.
الكتاب شيق وممتع، وينتمي إلى جنس السهل الممتنع، فقد تمكن الكاتب ببراعة وخفة من الجمع بين السرد التاريخي والتوثيق والتحليل، والتنبؤ.. وهو إضافة نوعية للمكتبة الفلسطينية.