استأثرت حادثتان باهتمام الفلسطينيين في الأيام القليلة الماضية: البنت الحاصلة على أعلى معدل في الثانوية العامة، والعملية المُسلّحة في الأقصى. وكالعادة، وهذا طبيعي تماماً، انقسم الناس ما بين مؤيد ومعارض. في الأولى شُتمت البنت وأهلها لأنها غير مُحجّبة، وفي الثانية استُعيدت مفردات تقليدية من قاموس الشهادة والشهداء. ولكن ماذا لو كان كارهو البنت هم أنفسهم مؤيدي العملية، أو على الأقل في طليعتهم، والأكثر صخباً بينهم؟
في مجرد سؤال كهذا ما يشترط قدراً من التعقيد في التحليل. وهذا ما لا يحظى بمكانة مرموقة في السجال العام: إما أبيض أو أسود. أما حقيقة أن الواقع أكثر تعقيداً من تبسيط كهذا، ففي أحسن الأحوال لا تحظى بالاهتمام، وفي الأسوأ تثير الغضب، وكل ما يستدعي من توابل الشتم والتخوين، ناهيك عن مفردة التكفير، التي انتقلت، في السنوات الأخيرة، من هامش غير مرئي في تاريخ الوطنية الفلسطينية إلى متن في خطاب مَنْ يقتات الآن على جثتها.
ففي حالة البنت، مثلاً، ثمة ما يبرر استعادة عبارة محمود درويش: "أنت منذ الآن غيرك"، التي قيلت بعد انقلاب حماس في غزة، والتي ينبغي أن تذهب مثلاً. فقبل الآن آن، وبعد الآن آن، في أفق ينفتح على كارثة، ونحن غيرنا: لم نعد نشبه ما كان فينا ومنّا حتى قبل عقد مضى من الزمن.
ألا يدل شتم البنت وأهلها على نزعة ذكورية عدوانية جارحة ومجروحة؟ ألا تدل كراهية النساء، معطوفة على عنف لفظي وعملي، على تحوّل رهاب الجنس إلى وباء اجتماعي، أشد فتكاً من الكوليرا في اليمن؟ أو ليس في هذا وذاك ما يدل، بتعبيرات فرويدية، على نضوب غريزة الحياة، مقابل صعود مُفزع لغريزة الموت؟
الاحتلال يُمرضُ. ليس صحيحاً أن ما لا تستطيع الحصول عليه بالقوّة لا تستطيع الحصول عليه بأدوات من نوع آخر. لم تكن الحركة الصهيونية، وحتى سنوات قليلة سبقت قيام الدولة، قادرة على إنشاء دولة يهودية بوسائل القوّة، بل لجأت إلى الخداع الاستراتيجي، واقتصدت في ممارسة العنف مقابل توظيف كل ما توفّر من أدوات أخرى، ومارست "تنسيقاً أمنياً" مع سلطة الانتداب البريطاني للحد من ظاهرة عصابة شتيرن، وغيرها، وفي العام 1948 قصف بن غوريون سفينة، تحمل أسلحة ومهاجرين، تعود ملكيتها لجماعة بيغين، التي حاولت التمرّد على سلطة مركزية حديثة العهد.
لا يُساق التذكير بأمر كهذا للمقارنة بين السلطة الفلسطينية، وقيادة الييشوف اليهودي في فلسطين قبل العام 1948، بل للتدليل على ضرورة وأهمية وجود مرجعية مركزية في ممارسة اقتصاد العنف، والاقتصاد في العنف. وثمة أمثلة من تونس زمن مفاوضات الاستقلال الداخلي، وجنوب أفريقيا زمن مفاوضات تفكيك الأبارتهايد. فالقوّة الكولونيالية لا تعترف بالهزيمة لأن ما لديها من قوّة النيران يقل عن قوّة أعدائها، بل لأنها لم تعد قادرة على تحمّل الكلفة المادية، والسياسية، والأخلاقية، للاحتلال.
ولنبتعد قليلاً لنقترب أكثر، حضرتُ، في الأيام الأولى للانتفاضة الثانية، اجتماعاً في رام الله ضم مثقفين وقادة فصائل للتفكير في أسئلة من نوع: من هنا إلى أين؟ حذّرنا، يومها، من خطر العسكرة والعمليات الانتحارية التي يصدق عليها تشبيه مَنْ يثقب قاربه بيديه. ولا ضرورة للاستطراد في التفاصيل، المهم، في معرض الرد على التحذير، أن أحد الحاضرين طرح سؤالاً سرعان ما تلقّفه مؤيدوه، وهم الأغلبية: مَنْ يملك القارب؟
منظمة التحرير، والسلطة المنبثقة عنها، هما المالك الشرعي والوحيد للقارب، ولكن مياه كثيرة جرت تحت الجسر، كما يُقال. وفي حقيقة الخلاف على الملكية ما يفسّر واقع وفوضى المرجعيات. وفي كليهما ما يفسر، أيضاً، ضياع البوصلة. ولستُ، هنا، في معرض التحليل والتأويل لماذا وما الذي أوصلنا إلى حال كهذا، بل التعبير عن قلق ومخاوف قد يكون مبعثها تشاؤم مقيم، أو محاولة لاستخلاص العبر مما يجري حولنا.
ففي العراق، كانت مقاومة الاحتلال الأميركي، وهي مشروعة في كل الأحوال، مدخل الدواعش إلى المشهد العراقي، ولا شك أن عراقيين يصعب حصرهم تعاطفوا مع مقاومين يقاومون غزاة أميركيين، دون التدقيق في هوياتهم السياسية والأيديولوجية. وفي سورية، كانت مقاومة نظام آل الأسد، وهي مشروعة في كل الأحوال، مدخل الدواعش إلى المشهد السوري، ولا شك أن سوريين يصعب حصرهم تعاطفوا مع مقاومين لنظام الجمهورية الوراثية، دون التدقيق في هوياتهم السياسية والأيديولوجية. وكانت النتيجة في الحالتين تدمير العراق وسورية.
ثمة خصوصية لكل حالة. ومع ذلك فإن ما وقع، ويقع، لا في العراق وسورية، بل في كل مكان آخر من العالم العربي، يحض حتى الأعمى على رؤية القاسم المشترك: تسلل الدواعش من فجوات في قضايا مشروعة إلى بلدان ومجتمعات للاستيلاء عليها وتدميرها. وبهذا المعنى، أخشى أن يصيبنا ما أصاب غيرنا، فهذه عاصفة شاملة وكاملة تجتاح العالم العربي، وفي فلسطين كل العناصر، والفجوات الضرورية، لدعشنة أبرياء ووطنيين ومغامرين ونصابين، وتجّار دم وحروب وأيديولوجيات، كما حدث في كل مكان آخر.
المُموّل جاهز، والمُقاول جاهز، والتلفزيون جاهز، والشهيد جاهز، والاحتلال جاهز، والقضية جاهزة، والأيديولوجيا جاهزة، والشعب مُطيّفاً (السني والشيعي والدرزي والمسيحي والمؤمن والكافر، والحضري والريفي، واللاجئ والمواطن، والفصائل، والضفاوي والغزاوي، والشتات، والـ 48 والـ 67..الخ) جاهز، أما السردية البطولية فجائعة لا تشبع، والقارب يتأرجح.
عشرات المستوطنين يقتحمون باحات الأقصى وأدوا طقوسًا تلمودية
13 أكتوبر 2024