توجيهي.. إنجاز

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

بفعل النظام التعليمي، والقيم المجتمعية ترسخت على مدى عقود، في أذهان الطلبة وأهاليهم ثقافة مخيفة عنوانها «التوجيهي».. كانت المدرسة والأسرة على الدوام تضع الطالب أمام احتمالين لا ثالث لهما، إما النجاح أو الفشل؛ فيظل الطالب وأهله مشدودي الأعصاب، وفي حالة قلق وتوتر طوال العام، إلى أن تظهر النتيجة، والتي تختزلها كلمة واحدة: ناجح، أو راسب.. ناجح تعني أن الآفاق كلها ستفتح أمام الطالب.. أما راسب فتعني نهاية الكون، وانهيار العالم.. حينها، من البديهي أن يرتعد الطلبة خوفا من الرسوب..
هذه السنة، أتت مختلفة بعض الشيء، وربما تكون فاتحة لتغيير جذري ينهي هذه المأساة المسمّاة «توجيهي».. ويعيد النظر في النظام التعليمي بأكمله، وتحديداً في موضوع تقييم الطالب، وعدم حصر التقييم بالامتحانات.. ومن الواضح أن د. صبري صيدم يمتلك رؤية بعيدة المدى، ولديه برنامج واعد، وخطط طموحة، وقد وضع الأسس الأولى لإستراتيجية تعليمية جديدة، بدأها بمنح هذه السنة اسم «إنجاز».. نأمل أن تصل التغييرات في السياسات التعليمية الجديدة لمستوى التعليم التحرري، الذي لا يقيس الطالب استناداً للامتحان، ولا يعمل على قولبة عقول الطلبة وتنميط شخصياتهم، بحيث نخرّج في كل سنة مئات آلاف الطلبة بعقلية نمطية محددة تقليدية محافظة مسكونة بالخوف من التغيير، تعيد إنتاج نفس قيم ومفاهيم المجتمع، دون أي تطوير أو تحديث.
هذه السنة مثلا تخلصنا من كلمتي «راسب» و»ناجح»؛ من يتعثر في مادة ما (لأي سببٍ كان) يسمَّى «غير مستكمل»، ولديه أكثر من فرصة للنجاح، ومع ذلك ما زال المجتمع مشدوداً على أعصابه بانتظار يوم الحسم.. يوم نتائج التوجيهي.. ربما نحتاج سنوات إضافية للتحرر من هذه الثقافة.
العلم تحصيل مستمر، والنجاح فيه ثمرة تراكم، والإخفاق مرة أو عشر مرات يعني أن عليك تجريب طرق جديدة ومختلفة للنجاح.. الامتحان لا يقيس ذكاء الطالب، والرسوب لا يعني الفشل.. «أديسون» مثلا، فشل مئات المرات قبل أن يخترع المصباح الكهربائي.. أشهر وأهم العلماء والعظماء على مر التاريخ لم يجتازوا شيئا اسمه التوجيهي.
الامتحان أداة غير علمية لقياس قدرات الطالب، وظل نظام الامتحانات على مدى عقود وسيلة ظالمة تحدد مستقبل الطلبة، مشكلة التعليم النظامي التقليدي أنه يختزل كل المعرفة ويجسدها في الامتحان، وليس في الفهم، لذلك بعد الامتحان بساعة واحدة يكون الطالب قد نسي كل ما حفظه.. لأن هدفه كان اجتياز الامتحان، لا ترسيخ المعلومة وفهمها ومناقشتها ونقدها.. التعليم النظامي يختزل الأشياء باللونين الأبيض والأسود.. لا مكان فيه للتجريب، ولا للاعتراض، أو رؤية أشكال متباينة ومختلفة من الحقيقة (حتى لو كانت قاعدة علمية).. صحيح أن الحفظ من علامات الذكاء، والمناهج والكتب جزء من التعليم، لكنها ليست التعليم كله.
إذا أردنا تطوير التعليم يجب علينا أن نغير الأسس القائمة، والتي تجاوزها الزمن.. مثلاً، يجب أن يكون تذوق الأدب هو الهدف وليس حفظ القصائد، يمكن تبسيط المعلومة وتقديمها بشكل شيّق، الاستعانة بمشاهدة الأفلام الوثائقية، تذوق الموسيقى ، الاهتمام بالفن والمسرح والرياضة والنشاطات اللامنهجية، إدماج اللعب بالتعليم، الخروج من حدود الصف والمدرسة إلى الحقول والمتاحف والمصانع والملاعب.. بل والخروج عن الأنماط التقليدية المعروفة، وتشجيع الحوار والجدل، والاختلاف، واحترام البيئة والنظام والقانون... وإذا أردنا تقييم الطالب فيكون ذلك بالأخذ بعين الاعتبار نشاطاته وإنجازاته وهواياته وطبيعة شخصيته.
هذه الوسائل وغيرها كفيلة بتوسعة آفاق الطلبة، وتطوير قدراتهم، واكتشاف مواهبهم وصقلها، والوصول لثقافة مجتمعية رحبة، مفادها أن الإنسان الناجح ليس شرطا أن يحمل شهادة جامعية.. يمكن أن يكون حرفيا، أو صانعا ماهرا، أو فنانا، أو رياضيا، أو شاعرا، أو ناشطا في مجال ما.
لا يكفي أن تغير وزارة التربية مفاهيم النجاح والرسوب والتخلص التدريجي من كلمة توجيهي.. يجب على الجامعات السير بخطٍ مواز وانتهاج سياسة مكملة وداعمة.. يجب أن يكون معيار القبول في الكليات رغبة الطالب وقدراته وميوله.. وهذا لا يُقاس بمعدل التوجيهي.. يمكن عمل مقابلات شخصية، واختبارات قبول.. ولا بد من تدخل الحكومة، وتخصيص منح للموهوبين، وليس فقط للمتفوقين بالعلامات.. من قال إن الطالب الذي حصل على معدل 90% أذكى من الطالب الذي حصل على 70% !؟
وأيضا يجب تخطيط التعليم الجامعي؛ أي تحديد احتياجات المجتمع من كل تخصص، وإلا فإن كل السنوات التي يقضيها الطالب على مقاعد الدراسة ستغدو بلا جدوى، لأنها ستنتهي بتكديس مزيد من الخريجين في سوق البطالة، وتحويلهم إلى عبء يثقل كاهل المجتمع، بدلاً من أن يكونوا رافدا يدفع عجلة البناء والتقدم.
وكما هو مطلوب تغيير نظرتنا تجاه المناهج والامتحان.. أيضا في الدراسة الجامعية مطلوب تغيير نظرتنا للتخصص، فلا يوجد شيء اسمه «أفضل تخصص».. أي تخصص علمي أو أدبي أو صناعي.. هو الأفضل، وهو الاختيار الصحيح إذا كان متوافقا مع ميول الشخص وقدراته ورغبته في التميز.. أعرف طلبة تعثروا في التوجيهي، أو نجحوا فيه بمعدلات منخفضة، لكنهم تفوقوا في دراستهم الجامعية، والسبب ببساطة أن التخصص الذي اختاروه كان منسجما مع رغباتهم وقدراتهم الذهنية.. المشكلة أن الجامعات ما زالت تفكر بعقلية تقليدية محافظة.. مثلا قد يتخرج طالب بكالوريوس بمعدل مرتفع، لكنه لا يستطيع إكمال دراساته العليا لأن معدله في التوجيهي كان منخفضا!! حتى لو كان نابغة في العلم!
التغيير الذي ننشده يجب أن يبدأ بطالب الابتدائي وينتهي برئيس الجامعة ووزير التربية ورئيس الحكومة وكل صانعي القرار.. وإلا سيظل حرثا في البحر.