قلنا في خاتمة المقال السابق إنّنا سنحاول معالجة هذا العنوان في هذا المقال حتى نتبيّن فيما إذا كانت تقديرات حركة حماس لموازين القوى قد أصابت أم أخطأت، أو فيما إذا كانت قراءة الحركة لهذه المسألة المهمّة والحسّاسة قراءةً مغامرة أو مسؤولة، أو فيما إذا استندت إلى مفاهيم خاصّة، ذاتية، «فئوية» أم أن هذه القراءة كانت تهدف من خلال «طوفان الأقصى» إلى أن تحوّل مسألة «التوازن» بحدّ ذاتها إلى موضوع ومسألة، وإلى صيرورة تجعل منها مفتاح التحوّل في هذه الموازين.
أقصد أنّ كتابات كثيرة ــ مع الأسف ــ وهي تحاول انتقاد قراءة الحركة لتلك الموازين لم تنطلق من ديناميّات ما يمكن أن يؤدّي إليه «الطوفان» من «تغيّرات وتعديلات من شأنها أن تعيد كامل مسألة «التوازن» إلى مساحة أوسع بكثير من «ستاتيكيّات» ما يتّسم به هذا التوازن قبل «الطوفان»، أو ما كان يميّز هذا «التوازن» من معطيات وحقائق، ووقائع ثابتة ومستقرّة تعبّر عن نفسها بكل وضوح في حقيقة الاختلال القائم، أو الاختلال الذي كان قائماً حتى ذلك الوقت.
وقد رأينا أن أي اختلال، ومهما كانت درجة شدّته وحدّته لا يمكن أن يمنع اندلاع الصراع، وتتابع الحروب والمعارك في حروب التحرير الوطنية، وأن المراهنة على توفير «مقوّمات» الانتصار في هذه الحروب لا تنطلق، ولا يجوز أن تنطلق أصلاً من واقع الاختلال في موازين القوى مع القوى الاستعمارية، وليس هناك في التاريخ كلّه توازن بين المستعمِر والمستعمَر، وليس هناك من مراهنة أهمّ وأكبر وأعظم من الصراع والحروب والمعارك، في كلّ المجالات، وعلى كلّ المستويات من أجل كسر هذا الاختلال، بل ليس هناك من وسيلة أمام حركة التحرّر الوطني سوى أن تحدث وتراكم وتبني مقوّماتها للوصول إلى كسر معادلة الاختلال.
والسؤال هنا هو: هل أن حركة حماس عندما أقدمت على «الطوفان» كان في مخطّطها أن تكسر هذا الاختلال بقدر ما هو ممكن في هذه المرحلة، وفي هذه الظروف المحيطة؟ أم أنها قد أقدمت عليه دون أن ترى واقع الاختلال من جهة، واستحالة كسره من جهة أخرى، وهو ما أدّى ببعضنا إلى انتقاده وبما يصل في بعض الأطروحات إلى «تحميله» المسؤولية عن «كارثة» وطنية حلّت بنا، وإلى «نكبة» جديدة أصبحت ماثلة وقائمة ومنذ الآن.
للإجابة عن هذه التساؤلات نحتاج في المنهج إلى عدّة اعتبارات: أوّلاً، أن نرى فيما إذا كانت «حماس» التي قامت بهذا «الطوفان» هي نفسها كما كانت قبل أكثر من ثلاثة عقود؟ أم أنّها لم تعد فقط كما كانت، وأنّها تغيّرت وتحوّلت في سياق هذا الصراع المحتدم مع الاحتلال وأعوانه إلى حركة وطنية جديدة.
والاعتبار الثاني، هو أن نرى في ضوء الإجابة عن الاعتبار الأوّل فيما إذا كانت منطلقات الحركة نابعة من «أزمة» في استمرار حكمها للقطاع على كلّ الصعد والمستويات.. أم أنها نابعة من قراءة تتعلّق أوّلاً وقبل شيء بما وصلت إليه دولة الاحتلال من وضع القطاع، وفي وضع الضفة على جدول أعمال الحسم المباشر.
هنا يمكن أن تخطئ الحركة أو تصيب ــ وهذا ليس موضوعنا ــ لأنّ منطلق المسألة هو الموضوع.
فإذا كانت «حماس» وهي تقدِم، وقد أقدمت على هجوم «الطوفان» ما زالت هي الحركة «المنضبطة» لجماعة الإخوان المسلمين، وهي التي تفكّر بعقلية «الجماعة» وأهدافها، وأدواتها، وتحالفاتها، ومفاهيمها وأفكارها.. إذا كانت «حماس» هي هذه الحركة بالذات فهذا شيء، وأن تكون الحركة قد خرجت من هذه العباءة، وتحرّرت من كلّ هذه الاعتبارات، وأصبحت تنظيماً يملك قراره وقراءاته،، ولديه وسائله وأدواته، ومستعد لإقامة تحالفاته الخاصة التي تعزّز من هذا «التحرّر» فهذا شيء آخر.
على هذا الأساس، أو الأساسين بالأحرى أرى أنّ «حماس» قد بدأت مساراً للتحوّل من حركة دينية دعوية إلى حركة دينية سياسية، ثم إلى حركة سياسية دينية، وهذا المسار بالذات هو مفتاح فهم الدور والمكانة اللذين تميّزت بهما الحركة منذ أكثر من ثلاثة عقود من انخراطها في العمل الاجتماعي والسياسي ثم في معمعان الكفاح الوطني. يحتاج الأمر هنا إلى معالجات خاصّة لا يتّسع المجال لها هنا في إطار هذا المقال.
حركة الإخوان لم تكن معنيّة بالصراع ضد دولة الاحتلال، أو بالمشاركة الكفاحية فيه، وكلّ «المحاورات» التي سبقت تأسيس «حماس» لم تكن لا جدّية، ولا حقيقية، ولم تنبع من تحوّلات وصلت إليها «الجماعة» أو توصّلت إليها في ضوء مراجعات زادت على أكثر من 50 عاماً من الكفاح الوطني عندما انطلقت الحركة.
من زاوية البرنامج فإنّ انطلاقة «حماس» هي المحاولة الأولى من قبل جماعة دينية سياسية الاقتراب من الإستراتيجية الوطنية للشعب الفلسطيني في صراعه مع المشروع الصهيوني. لكن المشكلة هنا أنّ هذا الاقتراب قد جاء على خلفية التزاحم وليس التنافس، وعلى خلفية الموازاة والبديل، وليس على خلفية المشاركة، وعلى خلفية التخوين والتكفير في بعض المراحل والأحيان.
وفي إطار هذا كلّه عملت «حماس» على نظرية «التمكين» حتى وصلت «الانقلاب الدموي» لبناء «إمارة» بكلّ ما لهذه الكلمة من معنى، وبدأت مسار «التحكُّم» بالقطاع أملاً بالحفاظ والاحتفاظ، لتقاسم الضفة على طريق فرض وصايتها عليها إذا لم تتمّكن من السيطرة عليها.
لسنوات طويلة راوغت «حماس» في إنهاء الانقسام الفلسطيني لأنها كانت ترفض التخلّي عن الحكم مستندةً إلى مقوّمات التحكُّم. ولم تبدأ مسار الاستعداد للتخلّي عن الحكم مطلقاً، لكنها بدأت تشعر بأعباء التحكُّم.
اختلّت المعادلة مع تدهور معيشة الناس، ومع استمرار الحصار، ومع تضييق الخناق على الحركة من المحيط الإقليمي والدولي على حدّ سواء.
يمكن القول هنا إنّ الحركة بدأت مسار المراجعة تحديداً بعد «صفقة شاليت»، وبعد أن بدأ الشهيد يحيى السنوار إعادة النظر ببعض الأسس والمنطلقات، وبعد أن أدرك بعمق أنّ العودة إلى مسألة العلاقة بين المقاومة والسلطة الوطنية باتت المخرج الوحيد، ووضع مخطّطات متكاملة نحو هذا المسار.
الوثيقة السياسية الجديدة لـ»حماس» كانت مقدمة كبيرة على هذا الصعيد، والمصالحة مع الدولة السورية كانت المؤشّر الأهمّ على التوجّهات الجديدة، وبناء علاقات قويّة وخاصة مع «حزب الله» اللبناني تحوّل إلى ركن جديد من أركان هذه التوجّهات، وتوثيق العلاقات مع إيران أصبح أحد أهمّ هذه التوجّهات.
وقد تُوّجت هذه التحوّلات والتوجّهات بأن تمّ بناء علاقات داخلية قوية من قبل «حماس» مع فصائل رئيسة أخرى في القطاع، وخصوصاً «الجهاد الإسلامي» و»الشعبية» و»الديمقراطية» وفصائل أخرى.
كما تُوّجت بتكريس قيادات تحمل هذه التوجّهات وتعمل على هديها بقيادة السنوار.
لهذا فإنّ خيار «الطوفان» كان خياراً واعياً، مخطّطاً وكان بمثابة تحوّلات كبيرة شهدتها الحركة في الدور والمكانة الجديدة لها بعد أن كاد تحكُّم الحركة بالقطاع وحكمها له أن يؤدّي إلى تضعضع هذا الدور وهذه المكانة.
فهمت الحركة وأدركت عمق الأزمة الداخلية الإسرائيلية دون أن تراهن عليها. وفهمت، أيضاً، توجّهات النظام العربي في «التطبيع»، ولكنها لم تراهن على دعم الحالة الوطنية الفلسطينية من قبل هذا النظام إلّا بقدر ما تنحدر الحالة الوطنية إلى مصاف رؤية النظام العربي للصراع.
فهمت الحركة أن النظام الدولي الجديد بدأ مسار الانتقال التدريجي نحو التعدّدية القطبية دون أن يفرض هذا الانتقال بعد، ودون أن تتمّ الهزيمة العسكرية لـ»الغرب» في أوكرانيا، ودون أن يعجز «الغرب» عن فتح صراع جديد مع الصين حول تايوان.
فهمت الحركة أنّ «حسم الصراع»، والتحوّلات الإقليمية، والدولية هي فرصة لدولة الاحتلال ستؤدّي حتماً إلى تصفية حكم «حماس» للقطاع وأنّ هذا الحسم بالذات مؤجّل إلى ما بعد حسم معركة الضفة.
هنا، وهنا بالذات أعدّت الحركة لـ»الطوفان»، وقامت به لأنّ الانتقال بالصراع مع دولة الاحتلال بدءاً من القطاع في مواجهة عسكرية شاملة هو الذي سيقلب المعادلات والموازين، وسنرى في المقال القادم كيف تمّ ذلك.