المتوكل طه " القدس كأس النار "

المتوكل طه " القدس كأس النار "
حجم الخط

.. ونَظرَ العرّافُ في كأسِ النار، ثمة مَنْ يبتسم في قَعْرها، قال، والأوارُ يلمع على شفتيه :

سيولدُ هنا، بعد الحطام والشظايا، وسيكون له عَرْشٌ ساحر، وستصل عرباتُه إلى أقاصي الثلوج.

في حضوره تتفوّقون على أنفسكم، وإنْ نظر إليكم ستتمّ المعجزة، وسيضحك لكم الزمان!

ستكون خيولُه بلا عدد، جلودُها ماءٌ،

وأجنحتُها غامضة، وستبدو أشجارُه ترياقاً للقلوب.

لقد حملته في أحشائها لينتقمَ لها، لكنّه تجاوز الرمادَ، وتمرّس بالمعرفة والجموح، حتى دقّ عُنقَ الخرافة.

لا مجد بلا معاناة . وبكى العرّافُ حتى ابتلّت

عينه البيضاء ! ثم صرخ: المسكين! العظيم!

إنها حياةٌ مُوحشة.. انتظروه..

إن أُمَّهُ تصرخُ من آلام المخاض.

سيتناول أعداؤه العَشاءَ في الجحيم،

ولن تكون شمسٌ في السماء، سيكون شمسَ الأرضين.

سيُغطّي الأرضَ بدمهم، ويتبعهم إلى آخر الحشرجات.

ستعلو صواريه، وينزل بالغيث حيثما يشاء، وسيفقأ عينَ الثور.

ستشكره البواشق، ويمّحي عُرفُ الديك الزائل، وتتلاشى صور أعدائه كالهواء.

ستحترق الأبواق، ويذوب المعدن من الصراخ.

ستفيض الوديان والحُفر والأخاديد بالعفونة

والديدان وثياب الحديد، إلى أن تتجشّأَ الفراخ،

ثم تدبَّ النار والطهارة، وتمطرَ غيومُ الصيف

سبعة أيامٍ بلياليها.

ربما لم تلده أُمّه، بل خرج من مرْجَل العويل والقهر.

سيجفّ على قميصه النُّعمان، ويتقشّر فوق دفقات العَرقِ تحت الظهيرة.

سيدخل المدينةَ العصّية، كما دخلوا مدائن الأساطير .

سيلاعب السَبْعَ في الكمان.

سيحمل إليه أبناءُ التّيه والبرابرةُ صناديقَهم، ويفرحون بالعفو.

سيعضّ قلبَه عطرُ الزهرة ذات الخُصلاتِ الفاحمة.

والشكُّ هو الذي يكشف أسرارَ القلوب، لكنَّ الوقتَ قد تأخّرَ..

سترقص له الغزلانُ في الغيوم، ويعذّبه بطنُ الأنثى، ويحلم بحليب الياسمين.

سينثرون الأرزَ لياقةً تحت أسواره، ويشرق بالحِبْر الأبيض، وتسبح على جدرانه الغاباتُ والأحلام.

وحينما يبلغ القمةَ سيرى وُعورةً لا تبلغها

أو تقطعها إلاّ الآلهة، فيضطر أنْ يسلك طريقَ النحل والحرير.

سيرتجف ويقشَعرّ، هذا القوي العنيد، ولن ينحني، لأنه بعيدٌ عن العار وشهوة الخشب.

ولن يتعجرف كالمُهر الأَرْعَن.

لن يخذله جسده، ولن تتجرأ عليه الأيام،

وسيبقى عابداً زاهداً بسيطاً.. وباسلاً إلى أنْ يشيبَ الأحفاد، ويحملوا خارطةَ الروح.

ولأنَّ الإفتراء ضعفٌ، والرؤيا بشرى، فلا بأس أن تضحكوا أيّها المتوحّشون، لأنكم لن تجدوا حتى الدمع، بعد حين.

وبعد حين بعيد، ستبهت أعراس الانتصارات، وستبلى الذكريات، وتتفتّح حواسٌ جديدة، تعبّ من عالمِها الحديثِ صيحةَ الكسل الطويلة، ولن ينتبهوا إلى التمثال والشعلة والنشيد إلاّ في المناسبة، كل عام.

فاتبعوا حُلمَكم المخبّأ في العاجِ والأدهمِ الشجاع!

وتلقّوا الطعنةَ النجلاء التي ستفتح كُوةَ النهار .

ويبدو أنَّ فذاذته تكمن في أَنّهُ أنقذنا من أنفسنا .

إنه مكافح سماوي، وإنني أراه..

في فرط الرُّمّان،

وعلى سواحل الماكرات الليّنة،

وفي ريق الخلاسيّات،

وفي كأس النار.

والحالمون يُرْهِقون مَنْ يصّدقون أحلامَهم،

فاحذروا، إنكم تدخلون دوامةَ البؤس والبكاء،

لتخرجوا أكثر كرامةً..

وإنني أراه .. إنني أراه .