حول الدعوة الإيرانية للحوار مع السعودية!

د. عبد المجيد سويلم.jpg
حجم الخط

من حيث المبدأ فإن الحوار بين الدولة الإيرانية وما تمثله من أهمية وثقل والسعودية بما تحتلّه من مكانة وما تلعبه من دور على مستوى الإقليم بل وعلى المستوى العالمي مطلوب ويمثل حالة صحية، وهو ضرورة سياسية ملحة بالنظر إلى الحالة التي وصل إليها الإقليم في مواجهة الأخطار الكامنة في قلب الأحداث الدائرة فيه.
لكن الواقع يقول إن هذا الحوار لو جرى اليوم لما تم التوصل إلى أي شيء حقيقي ومفيد، ذلك أن الدعوة الإيرانية لا تحمل أية نوايا لإزالة المخاوف السعودية والخليجية والعربية، كما أنها (أي الدعوة) تأتي في ذروة التوتر بين البلدين (والأصح القول التوتر مع الكثير من البلدان العربية) وهي لهذا بالذات ليست جادة، وهي حركة إعلامية لا تنطوي على أية توجهات حقيقية.
وحتى لو أن إيران كان لديها الاستعداد الكامل للحوار حول تلك المخاوف فهي في الواقع تريد من الحوار «انعقاده» ليس إلاّ، والهدف منه «فكفكة» الحلف المضاد لها ولسياساتها دون أن تدفع إيران أي ثمن ودون أن تتخلى عن أية سياسات تدخلية سافرة في المحيط العربي.
الكثيرون ما زالوا يعتقدون بعد كل الذي جرى في هذه المنطقة أن السياسات الإيرانية يمكن أن تتغيّر إذا ما كان العالم العربي على استعداد للتفاهم معها وصولاً إلى إقامة علاقات طبيعية قائمة على حسن الجوار، والاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية من قبل كل الأطراف وعلى حدٍّ سواء.
كاتب هذه السطور كان من أوائل الذين وصلوا إلى طهران في «عزِّ» أحداث «الثورة الخمينية»، والذين واكبوا عن قرب شديد تلك الأحداث والتقى العشرات من القيادات الدينية واليسارية والليبرالية آنذاك.
فماذا كانت مُحصّلة تلك الزيارة التي كانت بكل المقاييس زيارة مهمة وخاصة وعلى درجةٍ عالية من «السبقية».
الاستنتاج الأكبر والأهم في ذلك الوقت كان:
إيران مُقدِمَة على مرحلة هي مرحلة «تصدير» الثورة وتحويل هذا التصدير إلى أيديولوجية قائمة بحدِّ ذاتها إضافةً إلى إنهاء كل معارضة بما في ذلك المعارضة من داخل التيار الديني نفسه.
القارئ يستطيع أن يحكم بنفسه اليوم على هذا الاستنتاج، لكن المؤكد أن مفهوم «التصدير» هو الوسيلة اليوم التي من خلالها تتدخل إيران في تلابيب بعض المجتمعات العربية، وهي مستمرة في محاولة تحويل هذه المجتمعات إلى مجتمعات تتنازعها الانقسامات الطائفية البغيضة التي تستجلب الويلات السياسية والاجتماعية والثقافية، إلى أن وصلت الأمور إلى أحقاد باتت تهدد النسيج الوطني في هذه المجتمعات.
وقد نجحت إيران لأسباب سنأتي على بعضها في تصوير نفسها «حامي حمى» الشيعة في المنطقة، وأصبحت تتحدث بالنيابة عنهم بصورة سافرة ومباشرة حيث أمكن، وبصورة غير مباشرة حيث ما زال يتعذر عليها ذلك حتى الآن.
أما الموجات الكبيرة من المدّ الديني فقد أعقبت هذه «الثورة» بالذات بما في ذلك مدّ جماعات السلفية «الجهادية» وكل منظمات العنف والإرهاب في المنطقة.
منذ أن ترسخ مفهوم ولاية «الفقيه» أصبحت العلاقة التي تربط المصالح القومية الفارسية التي تلبس عباءة هذه الولاية والقوى والمنظمات المنضوية تحت هذا اللواء هي علاقة التبعية المطلقة.
ومع افتراض وجود «مظلومية» ما لحقت بالعرب الشيعة، وأخطاء كثيرة وقعت بها الأنظمة العربية على هذا الصعيد، وأخطاء أكبر وأخطر اقترفتها المؤسسات الدينية الرسمية على هذا المستوى، أيضاً فإن هذه «الولاية» في الواقع أصبحت معول هدم وليس أداة للإصلاح والتغيير، وأصبحت الصدامات ترتفع وتتصاعد وفق ارتفاع المنسوب السياسي للحالة الإيرانية.
صحيح أن الدخول في «المعركة الطائفية» «قد غُذِّيَ من الجهة المقابلة تحت يافطة الدفاع عن «السنّة»، إلاّ أن أصل المشكلة إنما يكمن في العقل السياسي لإيران الرسمية.
فلو تخلّت إيران أو أنها أبدت استعدادها للتراجع الكامل عن التدخل في الشأن العربي وتركت للمجتمعات العربية التي فيها أقليات أو حتى أكثريات شيعية حرية الاختيار بما في ذلك اختيار وسائل الإصلاح والتغيير، ولو أن إيران تراجعت عن أطماعها التي باتت تجاهر بها وبصورة غير مسبوقة من الاستفزاز، ولو أنها أعلنت أنها على استعداد لمناقشة المصالح المشتركة والأمن المتبادل من على قاعدة احترام السيادات الوطنية للبلدان العربية لأمكن أن تكون هذه الدعوة للحوار دعوة جادة.
وقبل أن تتم تصفية الآثار الكارثية لمفهوم ولاية الفقيه، وقبل أن يتم تراجع الخطاب الديني المذهبي والطائفي الذي ما زال سائداً في الأروقة الرسمية العربية والخليجية، وفي صميم مئات منظمات الإسلام السياسي المتطرفة والإرهابية، وحتى التي تطلق على نفسها المعتدلة والوسطية فإن الحوار يظلّ فاقداً للأهلية والموضوعية والصدقية.
وقبل أن تتحول الاختلافات المذهبية وتتجرّد من خلفياتها السياسية، وتصبح مداراً للحوارات الفقهية في إطار وحدة الهدف والمصير والقواسم المشتركة العظمى... قبل ذلك فإن الصراع في الواقع هو صراع على النفوذ والسيطرة والأدوار على المستوى الإقليمي وسيظل ذلك بغض النظر عن النوايا وبغض النظر عن اللباس الذي تلبسه هذه النوايا.
لكن الأمر الأهم هنا هو العرب والمسلمون السنّة. فإذا أرادوا أن يحصِّنوا مجتمعاتهم وأن يربحوا الصراع مع التوسعية الإيرانية فإن عليهم أن يحافظوا على مسافة هي أكثر من ضرورية بين مواقفهم ومواقف كل من الولايات المتحدة ومن خلفها أو إلى جانبها إسرائيل، ذلك أنه دون هذه المسافة فإن إيران قادرة على المناورة وقادرة على اكتساب وقضم المزيد من المساحة الاجتماعية والسياسية في البلدان العربية.