القدس، البعد الديني والجماهيري للصراع

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

كل ما يمكن أن يُقال أو يُكتب عن القدس، قيل، وكُتب.. ليس في الأسبوع الأخير وحسب، بل ومنذ أقدم الأزمان.. الموضوع في غاية البساطة والوضوح، وأيضاً في غاية الصعوبة والتعقيد.. والمسألة باختصار شديد: القدس جوهر الصراع وعنوانه الأبرز، وهذه المدينة المقدسة إما أن تكون مفتاحا للحل، أو الساحة التي ستندلع منها الحروب.. ليس في هذا الكلام أي جديد.. الجديد في الموضوع الأحداث الساخنة التي شهدتها المدينة قبيل وبعد "جمعة الغضب".. وبعض الملاحظات التي يمكن أن تُقال:
أبرز ما يمكن رصده، انتصار الفلسطينيين في معركة إثبات السيادة على المسجد الأقصى.. وكسر مقولات القادة الإسرائيليين التي زعمت أن السيادة على الحرم القدسي لإسرائيل فقط.. وحتى لا نبالغ، أو نقع ضحية الشعارات العاطفية، ورغم إدراكنا بأن القدس بأكملها تحت الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن الهبّة الجماهيرية الهادرة أثبتت أن إسرائيل ليس بوسعها فعل كل ما تريد في القدس، وأن للجماهير كلمتها التي لا بد وأن تُحترم، ولها إرادتها التي تستطيع من خلالها فرض ما تريد، أو على الأقل رفض ما لا تريد..
المهم في البعد الجماهيري أن الشباب لهم الدور الأبرز، متوسط أعمارهم دون العشرين، سواء من الشهداء، أو من المعتقلين أو من المتظاهرين؛ أي من عمر اندلاع الانتفاضة الثانية؛ وهذا يثبت أن الأجيال الجديدة في فلسطين عموما، وفي القدس خاصة مختلفة، الجيل المقدسي الجديد، هو الجيل الفلسطيني الجديد، الذين أشعلوا شرارة "هبّة" الأقصى ثلاثة شبان من أم الفحم، الذين استشهدوا في المواجهات شباب من القدس ومن محيطها، منفذ عملية مستوطنة «حلميش» من قرية كوبر، عمره 19 سنة، هؤلاء الشبان كانوا يخطون خطواتهم الأولى حين اجتاحت دبابات شارون مدن الضفة، ما يعني أن كل مساعي إسرائيل لكيّ الوعي الوطني الفلسطيني باءت بالفشل.. وأن الذين ظنوا أن الجيل الجديد سينسى، وأنه سيذوب في ثقافة قبول الاحتلال والتعايش معه، بنمط الحياة الإسرائيلية، وسيطرب على الأغاني العبرية، وسيخضع لعملية أسرلة، تنتهي بخلق جيل جديد لا يعادي إسرائيل.. خاب ظنهم.
واللافت في البعد الجماهيري أيضاً، أن جماهير القدس لم تتوقف هذه المرة عند محطات الشكوى التقليدية من ضعف التأييد العربي الرسمي والشعبي، ومن ضعف موقف العالم الإسلامي وتخليه عن القدس.. هذه المرة أمسك المقدسيون بزمام المبادرة، خرجوا بمفردهم، دون أن ينتظروا معونة أو قرارا من أحد.. وهذا يبرهن على أهمية وفعالية دور الجماهير، ونجاعة المقاومة الشعبية في فرض الإرادة الوطنية.. كل ما فعلته الجماهير الصلاة في الشوارع، والتظاهر، وبشكل وحدوي ومنظم.. ولولا هذه الوقفة الشعبية لتمكنت إسرائيل من فرض أولى خطوات التقسيم المكاني والزماني للأقصى، تماما كما فعلت في الحرم الإبراهيمي.. طالما كان عرفات يردّد: الشعب أكبر من قياداته السابقة واللاحقة..
صحيح أن المسألة لم تنته بعد، لأن البوابات الإلكترونية بحد ذاتها ليست جوهر المشكلة وعمادها، المشكلة أن إسرائيل ومنذ احتلالها للمدينة ماضية في مخططها الرامي لأسرلة وتهويد القدس، وطمس معالمها الإسلامية والمسيحية.. واختزال الأزمة بالبوابات من شأنه أن يساهم، دون قصد، في تأكيد الرسالة التي تحاول إسرائيل بثها للعالم، بأن ما يجري هو حرب دينية بامتياز.
إسرائيل، وتحديداً بعد صعود اليمين المتطرف، وسيطرته على مفاصل الدولة، وعلى الإعلام.. تحاول بشتى السبل تصوير الصراع العربي الصهيوني على أنه صراع ديني.. حكومة نتنياهو تسعى بكل جهدها، لتأكيد «يهودية» الدولة العبرية، وبالتالي ستجعل من «الحرب الدينية» إحدى أدواتها لتبرير يهودية إسرائيل، ولوسم الصراع بالطائفي، تمشيا مع الحروب الطائفية التي تجتاح المنطقة.. هذا سيجعل من وجود إسرائيل أمرا طبيعيا، وسيثبّت كيانها كدولة دينية لليهود، مثل دول المنطقة السنية والشيعية وكياناتها الطائفية الأخرى.
الحرب الدينية منزلق خطير تريد إسرائيل لنا أن نقع فيه؛ خطورته أنه سيقوض الأركان الحقيقية التي يرتكز عليها الصراع، وسيلغي البعد السياسي له، وبالتالي سيعطل كل أدوات الصراع السياسي التي نمتلكها: حق تقرير المصير، حق الاستقلال وإقامة دولة ذات سيادة، حق العودة.. فضلا عن كونه سيموه على حقيقة إسرائيل، بصفتها دولة احتلال، وعلى الحركة الصهيونية بصفتها حركة استعمارية عنصرية، وأداة بيد الإمبريالية العالمية.. وسيصور إسرائيل بدور ضحية "الإرهاب الإسلامي" الذي يريد رمي اليهود في البحر..
الحروب الدينية وعلى مر التاريخ كانت هي الأعنف، والأكثر دموية، لأنها لا تعرف الحلول لا المرحلية ولا الاتفاقية، ولأن كل طرف فيها يشيطن الآخر، وينزع عنه إنسانيته، وبالتالي تصبح بعد ذلك كل الممارسات الإجرامية مشروعة.. القتل والتدمير والحرق.. تصبح ممارسات عادية لأنها مغطاة بفتاوى دينية.. الحروب الدينية يستحيل حصرها في مكان، لأنها تفتح أبواب الصراع ليطال كل الأطراف في بقاع الدنيا دون اعتراف بالحدود.
طبعا كون أن الصراع سياسي، لا يلغي ولا يقلل من أهمية حقوقنا في ممارسة شعائرنا الدينية، وأهمها الصلاة في المسجد الأقصى بكل حرية، بل ويبرهن على السمة القومية والوطنية للصراع، والذي أهم ترجماته؛ توحد الفلسطينيين بكل قواهم وطوائفهم وشرائحهم خلف معركة الأقصى، وتصدي المواطنين ورجال الدين (مسلمين ومسيحيين) لكل الهجمات الإسرائيلية على المقدسات.
بدلاً من الوقوع في الشرَك الإسرائيلي بجعل الصراع دينيا، يمكن لنا قلب الطاولة على المخطط الإسرائيلي.. وذلك بالتركيز على شعار "إسرائيل تمنع المواطنين من الوصول لأماكن العبادة"، حيث إن حرية الوصول لأماكن العبادة من أهم الحريات وحقوق المواطنة في الدول الحديثة، وهي جوهر النظم الغربية العلمانية.. والعالم الحر لا يقبل بمثل هذا الانتهاك الصارخ، وهذا الأمر يحرج إسرائيل ويربك مخططاتها.