اسمعوا نحيب غزة...

30_1428063573_9503
حجم الخط

  29 أيار 2015

شكلت استقالة روبرت تيرنر مدير عمليات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة، واحدة من العناوين الكثيرة التي تدلل على مدى صعوبة وكارثية الأوضاع في غزة، واقتراب وصولها إلى مرحلة الانفجار على مستويات كثيرة.
تيرنر الذي صرح للصحافيين بأن استقالته ستدخل حيز التنفيذ اعتباراً من منتصف شهر تموز المقبل، أرجع هذا القرار إلى ما وصفه بالصعوبات التي تواجه "الأونروا" في ظل أزمات وتعقيدات مالية وعدم قدرة الوكالة الدولية على إيجاد حلول لإعادة إعمار المنازل التي دمرها الاحتلال الإسرائيلي في عدوانه العام الماضي.
استقالة تيرنر هذه فسرتها أوساط إعلامية وصحافية على أنها متعلقة بتشاؤم الرجل من الأوضاع الحالية في قطاع غزة، ولا حاجة للمتابعين والمراقبين أن يصفوا حجم الحطام والوهن الشديد الذي يصيب القطاع وأهله الذين يعيشون كمن يقضي حياته في موت سريري.
تتزامن هذه الاستقالة مع تقرير أعده البنك الدولي حول حالة غزة، قدمه حديثاً إلى الجهات الدولية المانحة للسلطة الفلسطينية، وفيه استعرض إحصائيات خطيرة ومقلقة عن التردي الذي أصاب الاقتصاد الفلسطيني هناك، وانعكاسه على سوء الأوضاع المعيشية.
البنك الدولي ربط انهيار اقتصاد قطاع غزة بالعدوانات الإسرائيلية المتكررة التي تقضي على الأخضر واليابس وتدمر البنى التحتية والفوقية، بالإضافة إلى الحصار الإسرائيلي والدولي المضروب على القطاع منذ ما يزيد على الثمانية أعوام.
ولا يستثني البنك بطبيعة الحال ضعف أداء حكومة التوافق الوطني، وبالتالي فإن كل هذه العوامل أدت إلى ارتفاع نسبة البطالة في قطاع غزة إلى حوالي 43% حسب إحصائيات هذا الجهاز الدولي.
هذه الإحصائية باعتقاد البنك الدولي تعتبر الأعلى في العالم، لافتاً إلى أن البطالة بين الشباب قاربت إلى 68%، في الوقت الذي لا يوجد فيه قدرة شرائية مثل "العالم والناس"، وكل هذا يسهل من تدهور الأوضاع الاقتصادية التي ترتبط أيضاً بالأوضاع الاجتماعية والحياتية.
الإحصائيات أيضاً تشير إلى أن الصادرات اختفت في سوق قطاع غزة بسبب الحصار الخانق المفروض على هذه البقعة الجغرافية التي لا تزيد مساحتها عن 365 كلم مربع، فيما انكمش القطاع الصناعي إلى نسبة 60%، والناتج المحلي الحقيقي لغزة لم يزد إلا نقطتين عن ذلك الذي كان في العام 1995.
ويضيف البنك الدولي أن النقطتين المذكورتين زادتا خلال عشرين عاماً، بينما زاد عدد سكان القطاع منذ العام 1995 إلى يومنا هذا بنسبة 230%، وهذا يعود إلى ارتفاع معدلات الزيادة الطبيعية، فضلاً عن عودة آلاف الفلسطينيين من دول الشتات إلى القطاع.
ويستطرد في الإحصائيات، مشيراً إلى أن عدوان إسرائيل على غزة العام الماضي أدى إلى انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 15% في عام 2014، وأن الدخل الحقيقي للمواطن في القطاع أقل 31% عما كان عليه الحال في العام 1994.
لا يمكن بأي حال من الأحوال غض الطرف والتعامي عن هذه الحقائق الإحصائية الصادمة، وعن تصريحات أممية كثيرة أحالت القطاع في أكثر من مناسبة إلى المناطق المنكوبة، ولا يمكن أيضاً تفسير استقالة مدير وكالة "الأونروا" تيرنر بأنها طبيعية والسلام!
المواطنون في غزة يعيشون حالة كبيرة من الإحباط والتشاؤم، في ظل انعدام الأمن والأمان والشعور كل يوم بالذل والمهانة من طفولة الفصائل المتعاركة ومن حصار غزة الذي أقفل معبر رفح المتنفس الوحيد للفلسطينيين منذ أشهر طويلة.
فقط في جولة سريعة على مواقع التواصل الاجتماعي وأشهرها "فيسبوك"، يمكن العثور على تلميحات وتصريحات شبابية سوداوية، تعبر كلها عن امتعاضها لما وصلت إليه غزة من تدهور على كافة المستويات، خصوصاً في طبيعة العلاقات الوطنية والأهلية.
حتى أن الناس لم تعد بحاجة اليوم إلى دفع تكاليف أي عدوان إسرائيلي، وكل ذلك لم يأت من فراغ، طالما وأن هناك عدم تماسك وطني وانقسام يؤثر على الوحدة الوطنية التي هي صمام أمان الشعب الفلسطيني وراعية حقوقه الوطنية المشروعة.
والله لو فتح معبر رفح البري لأسبوع كامل ولم تحدث عرقلة ودخل وخرج الناس من وإلى القطاع، لكانت الفرحة كبيرة وربما توازي في حدثها الصمود البطولي أمام عدوان إسرائيلي، ولو افترضنا أن ساعات قطع الكهرباء تقلصت بحدود ساعتين يومياً لربما خرج الناس إلى الشوارع تعبيراً عن ابتهاج عارم.
مع الأسف تبدلت أولويات المواطن الفلسطيني في غزة، حتى أنه لم يعد مهيئا للصمود أمام أي عدوان إسرائيلي جديد، ولم يعد قادراً على تحمل تكاليف أو أثمان باهظة، خصوصاً وأنه أكثر من دفع هذه الكلف في العدوانات وآخرها عدوان صيف 2014.
ومرةً أخرى يمكن القول إن أكثر من يتحمل مسؤولية ما يعيشه المواطن في غزة من ظروف صعبة بعد الاحتلال والحصار هو فصائل الانقسام، لأنها لو اتفقت فيما بينها وسيرت حكومة توافقية بدون مشكلات كبيرة، لكان يمكن تقليل الخسائر والكلف، أما وأن حكومة التوافق غير قادرة على العمل ولا تحمل سوى اسمها، فهذا من شأنه أن يزيد تعقيد الأمور.
فرقاء الصراع الداخلي يتحملون جزءاً كبيراً من كارثية الأوضاع في غزة، فقد قتلوا الأمل عند الناس وأضعفوا صمودهم، وجعلوا أكبر همهم يتمثل في استنكار أي عدوان إسرائيلي وفتح معبر رفح وزيادة الكفاءة التشغيلية للتيار الكهربائي... إلخ.
الشعب الفلسطيني يشعر اليوم وأكثر من أي وقت مضى، بخيبة الأمل من قيادته التي بدأت تتلمس طريقاً جيداً نحو النضال السلمي في المحافل الدولية لانتزاع حقوقها المشروعة، لكن مع الأسف بدون مرجعية شعبية تعطي الزخم للفعل المقاومي الدبلوماسي.
بهذه الطريقة والتصرف الانقسامي اللا مسؤول، سيأتي يوم على قطاع غزة تنتفض فيه على نفسها وعلى قياداتها ومخربيها، بدلاً من الانتفاض على المحتل الإسرائيلي الذي زاد توتير الأجواء الفلسطينية الداخلية وأذكاها لخدمة مصالحه التوسعية الاستيطانية.
يا أصحاب السلطة والانقسام.. لا تجعلوا الناس يلعنوا فلسطينيتهم ويبحثوا عن هويات وجوازات ومواطن أخرى بسبب مصالحكم الخاصة، فأنتم من يتحمل هذا الانقسام وأنتم من عليه إصلاح هذا الضرر الجسيم قبل أن يستفحل ويصل إليكم.