قد لا تكون هذه الهبّة كغيرها من الهبّات السابقة، وهي ليست مجرّد موجة، وليست مجرّد ردّة فعل مباشرة على الإجراءات الإسرائيلية في الأقصى.
الهبّة في القدس ومن أجلها ومن داخلها هي مرحلة جديدة نحن نعيش بشائرها الأولى أو إرهاصاتها الأولية.
لماذا وما هو الفرق بين هذه الهبّة والهبّات التي توالت وتلاحقت في الشهور الأخيرة؟
ما يميّز هذه الهبّة هو أنها محصلة وعي جمعي مقدسي أكثر من أي وقت مضى للأخطار المحدقة بالقدس كمدينة ومقدسات وكمفصل من مفاصل ومُركّبات الحقوق الوطنية وكعنوان رئيس من عناوين السيادة والاستقلال الوطني.
وإذا كانت إسرائيل منذ البداية تتربّص بكل ما هو رمز فلسطيني للوجود الوطني السياسي في المدينة فقد عملت على مدار السنوات الأخيرة كل جهدها على «حسم» معركة القدس، وبدت إسرائيل من خلال سياسات ممنهجة وتكاملية وكأنها في سباق مع الزمن «لإغلاق» ملف المدينة تحسباً لأية تطورات سياسية قادمة.
مسلسل هذه السياسات من استيطان وهدم بيوت وقوانين ومصادرات ليس بحاجة إلى أكثر من التذكير.
وإذا كان البعض يعتقد أن الهدف من الإجراءات الإسرائيلية الأخيرة والتي أعقبت العملية التي قام بها الشبان الثلاثة هو مجرد «رمزية» «السيادة» الإسرائيلية على الحرم الشريف أو مجرد الوصول إلى نوع من التقسيم الزماني والمكاني للحرم كما جرى في الحرم الإبراهيمي، فإن عليه أن يراجع حساباته.
الواقع أن إسرائيل تعتبر كل ذلك مجرد محطات للوصول إلى «السيادة» الكاملة على الحرم توطئةً لتحويله إلى مجرّد بنايات تراثية آيلة للسقوط في أية لحظة من لحظات «البحث» عن «الهيكل» والذي سيتم فبركته أو فبركة وجوده وفق خطة أغلب الظن أنها موجودة وقائمة ويسير تنفيذها على شكل خطوات متلاحقة ومدروسة.
وبعد قانون «القدس الموحَّدة» وبعد الإعلانات المتكررة عن فصل قرى غرب المدينة، وبعد كل الذي تقوم به إسرائيل من عمليات قضم وعزل ومحاصرة الكثير من الأحياء المحيطة بالمدينة القديمة، وبعد كل ما جرى من تنكيل بالتجار ورجال الدين وكل قطاعات وفئات المقدسيين أصبحت معالم المعركة واضحة وملموسة ولم يعد مخفياً منها سوى المزيد من مخططات التهويد.
حالة الوعي المقدسية في إطار الوعي الجمعي الفلسطيني وفي طليعته جعلت من الإجراءات الإسرائيلية الأخيرة الشرارة التي أشعلت هذه الهبّة.
الذي أغرى إسرائيل في نسختها المغرقة في رجعيتها والموغلة في أيديولوجيا الأساطير والخرافات هي الحالة الفلسطينية المزرية على صعيد تعمُّق الانقسام وحالة الهوان والعجز العربي وركود الحالة الدولية في ضوء الحقبة الترامبية وتداعياتها.
اعتقدت إسرائيل أن عملية الشبان الثلاثة هي فرصتها، التي لن تتكرر، وقد أثبتت الوقائع أن مرض «الأيديولوجيا» في إسرائيل بات مزمناً وقد يتحول إلى مرض عضال في السنوات القليلة القادمة، وأثبتت نفس هذه الوقائع أن عقلاً استشراقياً ساذجاً يضرب جذوره في مراكز البحث والدراسات والقرار السياسي.
مرةً أخرى ومرةً تلو الأخرى ـ كما هي عادة إسرائيل ـ تقع إسرائيل وتوقع نفسها في وهم تقدير اللحظة، ووهم تقدير الموقف، ووهم القراءة المحولة للحالة الفلسطينية. وتحسن إسرائيل قراءة الفرق هنا وهناك ولكنها تسيء القراءة بالجملة.
لكن الوجه الآخر لهذه الهبّة المقدسية إضافةً إلى كل ما تقدم من وجوه أخرى هو البلادة التي باتت تخيّم على حالة الانقسام الداخلي.
الوجه الآخر الذي يجب أن يقلق كل فلسطيني هو أن كل ما تتعرض له القدس وكل ما يبديه المقدسيون من رباطة الجأش وبطولة الإقدام وكل ما بات يهدد وجودنا الوطني كله لم يحرك في أهل الانقسام شعرةً واحدة.
وإذا كان كل ما يجري للشعب والوطن والقضية وللقدس وللمقدسات وللأقصى ليس كافياً «بعد» ـ على ما يبدو ـ للتراجع عن الانقسام وعن التمترس وراء أحلام وأوهام «الإمارة» وعن مصالح المنتفعين وتجّار الحروب الصغيرة ومقاولي الأجندات الإقليمية وكل المتسابقين على نيل رضا إسرائيل ومباركتها لسياساتهم ومواقفهم... إذا كان كل ما يهدد وجودنا وحاضرنا ومستقبلنا ليس كافياً للتراجع عن حالة الانقسام، فإن الوجه الآخر المخيف لهذه الهبّة هو أنها تثبت بما لا يدع مجالاً للشك ـ مع كل أسف ـ أن الانقسام لم يعد يقل خطراً على مشروعنا الوطني وحقوقنا الوطنية وكل أهدافنا التحررية من الخطر الإسرائيلي نفسه، بل يمكن القول بأن الانقسام هو الوجه الآخر للهجمة الصهيونية المتطرفة على شعبنا وحقوقنا ومدينتنا ومقدساتنا.
لا نريد مشروعاً يسمى مشروع المقاومة يكسر ظهر شعبنا ويكون ظهيراً لإسرائيل، ولا نريد مشروعاً يسمى مشروع السلام لا يفعل في الواقع سوى توفير كل مقومات الأمان للفتك بنا وبأهدافنا.
المقدسيون اليوم هم نموذج الوطن والقضية ونموذج الوحدة والشجاعة والصلابة.
القدس هي نموذج فلسطين وهي منارتها ونجمها الساطع.
القدس تركت خلفها كل الصغائر وكل الكبائر وألقت بكل النفايات التي تزكم الأنوف وتُلوِّث المشهد والطبيعة.
من القدس ستخرج مسيرة استعادة الروح واستعادة الوحدة وبلسمة الجراح.
للقدس وفي القدس سيشفى الجسد الفلسطيني، وفي شوارعها وأزقتها سيلفظ أهل الانقسام أنفاسهم وإن غداً لناظره قريب.
على أبواب القدس يصنع المقدسيون المعجزة الجديدة ومن هناك ستأتي البشارة.
وهذا هو الوجه الآخر، أيضاً.
ظهور قائد فيلق القدس بطهران بعد أنباء عن اغتياله في لبنان
15 أكتوبر 2024