بحكم عوامل لا تكفي هذه المساحة المحدودة لتعدادها، وحتى من غير المناسب اعادة التذكير بها، كانت تجليات مظاهر غضب الاردنيين ازاء التهديدات التي ما يزال المسجد الاقصى يتعرض لها، اعمق واشمل من اي مظاهر تضامنية جرت من جانب اي شعب آخر في العالمين العربي والاسلامي. وكان التفاعل الرسمي في عمان مع هذا الاستفزاز الاسرائيلي، ارفع مستوى من اي تفاعل شهدته اي من العواصم الشقيقة، التي التزم بعضها بالصمت المشوب بالحرج، وبعضها الآخر بأقوال رفع العتب، فيما نأى بعضها الثالث بنفسه عما بدا له مسألة ثانوية، قياساً بما يحتل اجندته القطرية من هموم واهتمامات لا حصر لها.
لم يكن الحراك الشعبي الواسع هو التعبير الاوحد عن هذا التفاعل الوطني والقومي مع المجريات المقدسية المثيرة للمخاوف مما قد يلحق بالأقصى من مخاطر جدية، بل كانت الى جانب ذلك الحراك مشاهد اخرى عديدة، دالة على ما كان يختلج في نفوس الناس من قلق وسخط ورغبة في الرد على تلك الحماقة الاسرائيلية. ولعل ما فاضت به الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي، والبرلمان وغيره، بكلام من العيار الثقيل، كانت افضل معيار لقياس مدى شدة حالة الغضب والاحتقان التي اجتاحت نفوس الاردنيين جراء هذه الواقعة المشهودة.
وما كان لمثل هذه المشاعر العفوية ان تتصاعد على هذا النحو، لولا ان المقدسيين صمدوا في الاختبار القاسي، واظهروا بأساً فاجأوا به انفسهم، قبل ان يفاجئوا به الاحتلال، ويسقطوا بيده المدججة بالحديد والنار، الامر الذي خلق لدينا مزيداً من آيات الفخر والاعتزاز، وبعث فينا سورة غضب ظلت تكبر وتشتد، كلما تعاظم المشهد المقدسي المقاوم، وتزاحم الشباب امام باب الاسباط وغيره من المداخل المؤدية الى الأقصى، الذي اتسعت مساحته، فجأة، لتشمل البلدة القديمة، وهو ما كان بمثابة وقود من حطب الزيتون، أجج العواطف النبيلة اكثر، وصنع موجة تضامن عربية اردنية عارمة.
في الليلة التي رضخت فيها اسرائيل للضغوط الشعبية المنذرة بانتفاضة جديدة، وانصاعت للضغوط الدبلوماسية الحثيثة (الاردنية في المقام الاول)، ناهيك عن التحذيرات الفلسطينية، بما في ذلك تجميد التنسيق الامني، وراحت تزيل البوابات الالكترونية تحت جنح الظلام، صُدم الاردنيون بمغادرة طاقم السفارة الاسرائيلية، بمن في ذلك قاتل المواطنين الاثنين، وسط تكتم رسمي لا داعي له، وايضاً غير مبرر او مفهوم، ازاء صفقة احسب انها تقل عن مستوى الطموح، وليست عادلة الى حد كبير، الا انها ادت الى دفع حكومة اليمين الاسرائيلي المتغطرس للنزول عن الشجرة، والاسراع في ازالة البوابات، وهو ما اعتبر هزيمة سياسية لبنيامين نتنياهو.
المفارقة هنا، انه في الوقت الذي استبشر فيه المقدسيون بإزالة البوابات، واحتفلوا به حتى مطلع الفجر امام عدسات المراسلين، في غمرة احساس بالجدارة وتحقيق نصر اولي له ما بعده، ساد الوجوم والاستياء هنا في الاردن، وعلت صيحات الاحتجاج على هذه الصفقة، التي بدت في اعين الكثيرين ظالمة ومجحفة، بل وباعثة على الألم والقهر، وكأنها لم تتضمن غير ترك القاتل ينجو من قصاص جريمة موصوفة، فيما لم يرغب المصدومون في النظر الى الجانب الآخر من المعادلة، التي اشتملت على تحقيق مطلب جوهري، كان يمكن تسويفه الى اجل غير معلوم، من جانب دولة تعتبر نفسها فوق القانون، ولا تقيم وزناً الا لما تراه اعتباراً امنياً مقدساً، لولا ما حدث في السفارة.
في عالم السياسة القائم على اسس ومبادئ وتقاليد مرعية، والمحكوم دائماً بفن الممكن، وتدوير الزوايا الحادة، وقاعدة الحل الوسط، تجري مثل هذه الصفقات غير المتوازنة، وفق اوزان الدول المتواجهة، واوراق القوة المتاحة، ومنطق الحكمة لا منطق العدل، لبلوغ اهداف واقعية قابلة للتحقق، وهي امور تتنافى حتماً مع وجهات نظر الغالبية الشعبية.
وحقاً، السؤال؛ ما الفائدة من انكار صفقة معلنة من الطرف الآخر؟ وما الضير في تهدئة العواطف المتأججة، بجعل الامور اكثر شفافية، وايسر قابلية للفهم؟ ولماذا هذا التعتيم على صفقة ابهجت اولياء الدم، ورفعت روحهم المعنوية، وهم هنا المقدسيون، فيما ادت هنا الى الصدمة، التي ينبغي تفهم دوافعها لدى الاردنيين المنفعلين عن حق، بإفلات القاتل من جريمته.
عن الغد الأردنية