بعدك على درب الوطن لمشي أنا بعدك / اسمك محفور بالقلب مهما يطول بعدك / والله ع طول العمر لبقى على عهدك.
هذا ما كتبه الشهيد «يوسف كاشور» في وداع ورثاء رفيق دربه «محمد لافي» عند دفنه، وكأنه كان يواعده.
لم يتأخر يوسف عن مواعدته، فقد لحق بصديقه محمد في اليوم التالي مباشرة بعد ان تلقى رصاصة غادرة من قوات الاحتلال، كتلك التي تلقاها محمد قبله بيوم.
«أنا شاب صغير، لم أبلغ من العمر العشرين بعد، كانت لي أحلام وطموحات كثيرة، ولكن ما هذه الحياة التي نعيشها وشبابنا يقتلون ظلماً».
هذا ما كتبه «عمر العبد» قبل الذهاب لتنفيذ عمليته في مستوطنة حلميش.
لم تنته حكاية المسجد الأقصى، ولا انتهت حكاية القدس. الحكايتان محبوكتان في سردية واحدة لا يمكن الفصل بين صفحاتهما، وهما تحتلان موقع المركز والقلب في النسيج الحي لوجدان وعقل وروح ووطنية وايمان وتاريخ وامجاد كل فلسطيني وكل عربي، ثم كل مسلم في العالم.
وطالما ان الحكاية لم تنته فان الحرب حولهما لن تتوقف طالما هناك دولة غاصبة وعقيدة صهيونية وفكر تلمودي واحتلال، ومجتمع استيطاني إحلالي، يلتقون كلهم في الإصرار على فرض السيادة المطلقة على القدس وعلى «جبل الهيكل»، كما يسمون المسجد الأقصى.
المعركة الحالية حول الأقصى وصلت الى خواتيمها.
ربح اهل القدس المعركة من موقعهم كرأس الحربة لحراك شعبي شمل كل اهل الوطن وتشكيلاته المجتمعية والسياسية.
واندحر العدو المحتل وتراجع عن كل الاجراءات التي حاول فرضها على دخول المسجد الاقصى. لم تنفعه كل مناوراته في تخريج تراجعه بوتائر تحافظ له على بعض ماء الوجه وتعينه على مواجهة الجدل الداخلي الخلافي والمدين لكل الأداء.
هل يمكن اعتبار ما تحقق نصرا فلسطينيا؟ نعم هو كذلك.
بالتأكيد ومن حقنا ان نفرح ونبتهج ونحتفل به، خصوصا وانه يأتي في وقت تكثر فيه الغيوم السوداء في سماء المنطقة. جموع المصلين وهي تهرع بشوق لملاقاة الأقصى والصلاة فيه رغم عوائق وحواجز الاحتلال تعيق اندفاعهم، تشهد على ذلك.
ونعم، من واجبنا أيضا البناء على الانتصار.
لقد تحقق النصر بفعل تناغم وانسجام تام افتقدناه واشتقنا له، لثلاثة مكونات اساسية:
المكون الاول، حركة جماهيرية عارمة، مركزها وقيادتها القدس ومرابطوها على اختلاف تشكيلاتهم الاجتماعية والعمرية والجنسية، والدينية ايضا حيث ظل مسيحيو الوطن في صلب هذه الحركة. اما دائرتها وأطرافها فكانت كل أهل الوطن في جميع مناطقهم وتجمعاتهم، وفي المهاجر والشتات. واذا كان من بؤرة لهذا المكون، فهو جيل الشباب اليافع الذي ولد ونما وتشكل تحت نير الاحتلال وكل سياساته القمعية والتجهيلية والإغرائية والإلهائية، فاذا به هو من يقدم الصورة الأكثر إبهاراً وتجذيراً للأمل بالنصر التاريخي في اندفاعه وانضباطه وتنظيمه واستعداده للتضحية.
الشهداء الثلاثة الذين يزينون صدر هذا المقال، يقدمون المثل الأحدث على هذا الجيل.
المكون الثاني، الاتفاق التام على أهداف المعركة والتمسك بها والإصرار على تحقيقها كما هي بلا اي مساومة مهما طال الوقت، وغلا الثمن. خصوصاً وأنها أهداف تتعلق بقدس أقداس الدين والوطن.
أما المكون الثالث، فهو اتخاذ القيادة السياسية الفلسطينية موقفاً ينسجم تماماً مع الحركة الجماهيرية، ودعمتها بما تستطيع، وتبنت كل أهدافها وتمسكت بها ودافعت عنها واشترطت تحققها، ورفضت وقاومت ضغوطا مورست عليها لتغيير هذا الموقف. وزيادة على ذلك فقد قررت تجميد كل أشكال العلاقة مع دولة الاحتلال وبشكل خاص ولافت مع أجهزتها الأمنية، وتمسكت بهذا القرار.
بهذا الموقف أمّنت القيادة الغطاء السياسي الضروري للحركة الجماهيرية ولمطالبها وأهدافها، وسدت اي شقوق يمكن النفاذ منها او المناورة عليها.
واذا كان الانتصار يفرض البقاء على موجة الفرح والابتهاج، فان هناك ملاحظتين خارج هذه الموجة تفرضان نفسهما.
الاولى، ان الموقف العربي تجاه معركة الأقصى والقدس كان، بألطف التعبيرات، باهتاً وضعيف التأثير ان لم نقل معدومَه.
على المستوى الرسمي، لم يصدر اي موقف او يتخذ اي اجراء، جمعي او فردي، بمستوى معركة الدفاع عن الأقصى وخطورتها.
اما المستوى الشعبي فكان افضل حال نسبياً، لكنه بشكل عام لا يرقى الى مستوى الحدث.
والملاحظة الثانية، ان النظام السياسي والتنظيمي الفلسطيني العام لم ينجح في الاستفادة من الحالة الجماهيرية العالية، والموحدة حول القدس والأقصى في تحقيق تقدم في أوضاعه وعلاقاته البينية يتناسب مع الحدث.
رئيس السلطة الفلسطينية، أبو مازن، وجه نداء عاما «باسم الأقصى والقدس إلى جميع القوى والفصائل وخاصة حركة حماس من أجل الارتقاء فوق خلافاتنا وتغليب الشأن الوطني على الفصائلي....»
وفي ندائه خص الرئيس حركة حماس بالقول «فيما يتعلق بحركة حماس، نحن أبلغناهم بصراحة، أنه إذا تراجعتم عن الحكومة التي شكلتموها،... وسمحتم لحكومة الوفاق الوطني بممارسة مهامها، ووافقتم على الذهاب لإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، فأهلا وسهلا، والإجراءات التي اتخذناها بشكل مبدئي وجزئي فيما بتعلق بالموازنة التي نقدمها، ستعود كما كانت عليه في السابق... «.
التنظيمات تجاوبت مع النداء وأيدت الموقف.الجبهة الشعبية مثلا، رأت ان النداء «يتضمن أفكاراً يمكن البناء عليها .....نحو تحقيق المصالحة الوطنية الفلسطينية،....» ولم يمنعها ذلك من ابداء رأيها «بأن المطلوب ليس تجميد الاتصالات مع العدو فحسب» ولا منعها ذلك، من مناقشة آليات الدعوة لعقد المجلس الوطني.
حركة حماس ردت على النداء في بيان مليء بكلام عام في الوطنيات ومد اليد للتعاون، لكنها «طنشت» تماما عن طلب التراجع عن حكومتها والسماح لحكومة الوفاق الوطني بممارسة مهامها. وبالمقابل طالبت بوقف الاجراءات العقابية ضد قطاع غزة واهله المحاصرين (في تجاهل لالتزام ابو مازن كما ورد اعلاه). ثم طالبت بالدعوة الى اجتماع عاجل « للاطار القيادي المؤقت». مع العلم ان الاطار المذكور لم يتشكل يوما، وليس له، ولم يكن له، وضع او وجود في النظام السياسي الفلسطيني يوما، ولم يجتمع بأي شكل او صفة يوما. بالمحصلة والمختصر حركة حماس، في بيانها المذكور، لم تتجاوب مع نداء الرئيس وبقيت العلاقة معها محلك سِر وبقي انقسامها على حاله.
ومع ذلك يبقى الرهان على انتصار الاقصى ومفاعيله قائماً ومستمراً لمن يريد المصلحة الوطنية.