30 أيار 2015
تذكرنا في هذه المدينة نفسها وعلى حين غرة لوقت قصير ومستقطع، ما بين أذان الفجر وإقامة الصلاة صبيحة يوم الأربعاء الأكثر حرارة في فلسطين منذ سنين، بشعور مفعم باليأس والإحباط ما رغبنا في عقلنا الواعي بنسيانه وحذفه من ذكريات وأصوات وصور الحرب الماضية. ولكن ما أن يأتي الصوت أولا فإن جميع تلك الصور والأشباح المخيفة التي تختزن في الذاكرة، إنما تعاود الظهور ويتم استحضارها جميعا بنفس الرهبة القديمة، وحيث تبدو الحروب المتأخرة في زماننا بأدواتها الأكثر حداثة في التاريخ، هي الحروب الأشد اختزالاً وتكثيفاً لمعنى وجوهر ودلالة الحرب بوصفها العمل والفعل الأكثر قذارة وبشاعة وإفساداً وفتكاً بالأسس الطبيعية، لمحتوى ومعنى وغاية الحضارة الإنسانية. وكأنه يتضح لنا اليوم انه كلما تقدمت تكنولوجيا الأسلحة وأدوات الحرب أي التقنية، عادت الحرب الى سابق عهودها الماضية بالارتداد مرة أخرى الى العصور الوحشية والبربرية، ولكن هذه المرة بوسائل فتك اكثر ترويعاً وتدميراً ليس للحجر وإنما للطبيعة والنفس الإنسانية.
لوقت قصير ومستقطع ما بين أذان الفجر وإقامة الصلاة، ولكن كان يكفي لترويع آلاف الأطفال الغزيين وآبائهم وأجدادهم. ليعاودوا الشعور مرة أخرى بانهم لا يزالون تحت رحمة هذا العدو، الذي لا يبرح في كل مرة من معاودة تذكيرهم بحقيقة مأزقهم. ان أحدا لا يرحم شقاءهم تحت وطأة هذا المصير. حيث يمضون في الحصار الذي يطوقهم الى الأبد يعانون كل ضروب الفقر والشقاء بانتظار فرج او رحمة من احد ولكنها لا تأتي. فهل كان ينقصهم ان تأتي طائرات الـ F16 في وقت قد اختاره وحدده أناس اقرب في مكرهم وطبائعهم الى الشياطين منهم الى البشر؟ أشخاص مريضون مرضاً لا شفاء منه بغريزة الرقص على ما يتسببون به من آلام لشعب آخر ؟ فإلى أين يراد دفع الغزيين في المحصلة من وراء كل ذلك؟.
استيقظت مبكراً كعادتي ومع احتساء قهوة الصباح، أخذت افكر في معنى ما حدث. ومن صوت إسرائيل بالعربية كما سيعلم الغزيون جميعا، بأن الأمر يتعلق بحادث فردي اقدم عليه احد عناصر حركة الجهاد الإسلامي نتيجة خلاف أو مشاجرة داخلية، وان هذا الشخص هو الذي قام بإلقاء الصاروخ الطائش على إسرائيل. طيب إذا كان الأمر كذلك لماذا هذا الرد المبالغ فيه من جانب إسرائيل؟ والذي لا يتفق أو يتناسب مع حادث يبدو انه فردي ومحدود؟ إذا كانت إسرائيل نفسها والفصائل الغزية وتحديدا "حماس" غير معنيين جميعهم بالذهاب الى تصعيد جديد او حرب أخرى. فهل انه يصح الاعتقاد هنا كتفسير وحيد لهذا الرد الإسرائيلي المبالغ فيه وغير المتوقع، فإنه حقا هنا "وراء الأكمة ما وراءها"؟
ماذا وراء الأكمة هنا الغارات العشر على مساحة القطاع من رفح الى خان يونس وبيت لاهيا شمالا ؟ هل كانت القصة من أولها إلى آخرها لا تتعدى عملية استدراج أخرى للصاروخ الضال بطريقة ربما استخباراتية في هذا التوقيت؟ بنية مبيتة من اجل القيام بهذه المناورة التطبيقية او البيان العملي لخريجين جدد من سلاح الجو الإسرائيلي؟ وحيث غزة هي الميدان النموذجي لإجراء مثل هذه التمرينات غير المكلفة بالذخيرة الحية، كما اختبار هذه الذخائر او أنظمة وأدوات قتال جديدة على حد سواء.
ام ان الأمر في الجانب الآخر لهذه المقاربة يتجاوز هذا الاحتمال او الافتراض، ويتعلق بدوافع من نوع آخر أي في إطار توجيه رسائل سياسية لحركة حماس تحديداً، ومفادها إما الحرب القادمة التي نختار توقيتها وزمانها، وإما قبول العرض المقدم لكم بالجنوح الى السلام وقبول الجزرة المقدمة لكم: ميناء ومطار وفك الحصار وازدهار اقتصادي، بما يترتب عليه من وظائف وإعمار وفك ضيقة غزة وجعلها اكثر ازدهارا من الضفة، وكل ذلك مقابل هدنة طويلة الأمد تتحول إلى هدنة دائمة، وعملية تحول وتغير شاملة في الأفكار والمعتقدات السياسية، ويكون الحل ما بعد أوسلو الأولى "غزة أولا" مرة أخرى. ولكن في الطبعة الثانية هي الدولة وبالتالي فك الارتباط مع الضفة.
هل كان ذلك إذا جزءا من المفاوضات السياسية الجارية كنوع من الدغدغة المحدودة كرسالة الى حماس ؟ وليس مصادفة هنا تدخل الرئيس الإسرائيلي بنفسه بعد ساعات قليلة ليقول في تصريح نادر : ليس عندنا مشكلة في التفاوض مع "حماس". ولاحظوا هنا الفارق في إسقاط شرط التفاوض القديم مع المنظمة وعرفات بنبذ العنف والإرهاب، ليتحول الأمر الى نوع من الهرولة وتسول لقبول هذا التفاوض مع "حماس".
والمسألة واضحة ليس ان إسرائيل بعد ثلاث حروب مع غزة و"حماس" توصلت الى انه لم يعد ثمة خيار حربي او عسكري مع غزة عبر القوة الصلبة، ولكن في الوقت نفسه ان الحل مع غزة هو الذي يشكل اليوم طوق النجاة والمخرج امام نتنياهو وحكومته المعزولة دوليا، طالما يتوجب عليه ان يقدم عرضا او حلا ما كبديل عن الجمود والانسداد أمام أبو مازن في الضفة. وطالما ان اعتقاد الرجل ومقاربته بالأساس هي الحل الاقتصادي، بديلا عن دفع الضريبة السياسية في الحل مع الفلسطينيين السياسي والشامل.
وأقول لكم مع الأسف انه إذا صحت هذه الافتراضات التي نسوقها هنا، فأن نتنياهو يعرض بضاعته في توقيت يبدو فيه المزاج الغزي قبل المزاج الحمساوي في وضع من الاستعداد والتلهف بقبول هذه البضاعة وهذا العرض، لقد اصبحوا يشعرون بالتعب بعد ثماني سنوات من الحصار وثماني سنوات عجاف أُخرى من الانقسام، وثلاث حروب لا سابقة لها في وحشيتها وعنفها وقسوتها عليهم، وتحت وطأة الشعور بظلم الشقيق الأكبر الذي يغلق امامهم البوابة الوحيدة لتنفسهم، ووسط المعاناة والفاقة الشديدة ونسبة البطالة الأكبر في العالم وكذا الفقر، فأنه ليس سراً انهم يحلمون بمثل هذا الخلاص الوردي الذي يتصورون فيه انهم بإنشاء ميناء ومطار يوصلهم مع العالم، سوف يتحررون مرة واحدة وللابد بانفتاح طريق التجارة مع العالم بصورة حرة، وينشغلون في حساب كم من العاطلين عن العمل من شبانهم وبناتهم، سوف يحصلون على العمل. وحتى لو أدركوا وعلموا ما هو الثمن وهو ان يصبح لديهم رادعا جديدا يتمثل بالخوف من خسارتهم لهذه الامتيازات في أي قرار يتخذونه بالإقدام على الحرب.
هل كان هذا هو الشعور الغزي فجر يوم الأربعاء من ان أي شيء، أي وضع الا الدخول مرة أخرى في التجربة؟ والجواب نعم، وقد قال المسيح "لئلا تدخلوا في التجربة". وهكذا لهذا السبب استحسنوا اعتقال "حماس" على الفور الشخص الذي قام بإطلاق الصاروخ. واليوم لعلهم يفسرون شق "حماس" للطريق الجديد المحاذي للسياج الفاصل بين غزة وإسرائيل، ليس لوضع حد لتسلل العملاء مع إسرائيل عبر السياج، ولكن أيضا لإحكام "حماس" مراقبتها وسيطرتها الأمنية على خطوط التماس، عشية التوصل الى التفاهم مع إسرائيل حول العرض المقدم الذي من الواضح ان "حماس" في طريقها للقبول به، حتى لو اقتضى الأمر ان نرى في يوم قادم مشهدا لا يقل اثارة عن لقاء عرفات واسحق رابين، يظهر فيه رجال "حماس" يجلسون على طاولة واحدة يتفاوضون عليها مع إسرائيل.