المفاوضات رغبة لن تتحقق!

رجب أبو سرية.jpg
حجم الخط

أظهر الموقف الرسمي الأميركي خلال "أزمة" البوابات الإلكترونية في القدس، الصورة التي ما زالت مستترة حول قدرة إدارة الرئيس دونالد ترامب على إطلاق العملية التفاوضية بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي المتوقفة منذ نيسان 2014، حيث إن أقل ما يمكن قوله بالخصوص: إن إدارة ترامب لا من حيث الموقف ولا من حيث الكفاءة تظهر قدرة ما على اجتراح المعجزة التي عجز أسلاف ترامب في البيت الأبيض عن القيام بها، وفي أحسن الأحوال فإنه يمكن لتلك الإدارة أن تطلق فصلاً تفاوضياً ما، لكن ما بات من شبه المؤكد _برأينا_ هو أن تلك الإدارة لن تنجح أبداً في الأخذ بيد الجانبين للتوصل إلى حل سياسي ما.
ويبدو أن ترامب ورغم أنه رجل أعمال ناجح، أو أنه تاجر مقاولات "شاطر" إلا أنه يبدي قدراً كبيراً من التحلي "بالأحلام السياسية" غير الواقعية، بل وأحياناً المتناقضة، فهو وصل للبيت الأبيض على جناحي شعاراته الانتخابية المجلجلة حول نقل سفارة بلاده من تل أبيب للقدس، ثم وبعد أن دخل البيت الأبيض أطلق تصريحه حول إسلامية حائط البراق، وبعد أيام كان يصلي أمامه، أما وإزاء أول مشكلة تحدث بين الجانبين فقد رسبت إدارة ترامب في الاختبار الأول، رغم ما أبدته من اهتمام بالأزمة الناجمة عن إقامة إسرائيل البوابات الإلكترونية على مداخل الحرم القدسي الشريف منتصف شهر تموز الماضي.
تمثل الموقف الأميركي بانحيازه المعلن بشكل ساذج، حين طالب الجانبين بالتهدئة، بعد إقامة إسرائيل للبوابات الإلكترونية، الأمر الذي أثار حفيظة الشارع الفلسطيني ولم يكن مقبولاً في الوقت نفسه على المستوى الرسمي الفلسطيني؛ لأنه يعني منع الفلسطينيين من التعبير عن رفضهم إقامة تلك البوابات وتمريرها، ثم أظهرت كذلك تلك الأيام سذاجة مبعوثي ترامب، كل من صهره وكبير مستشاريه جاريد كوشنير، والمبعوث الخاص جيسون غرينبلات، فإضافة لتبني الموقف الإسرائيلي وعدم تقديم تصور أميركي خاص بالأزمة، قام مبعوثا الإدارة الأميركية بنقل المواقف كما هو حال ساعي البريد، لا أكثر ولا أقل، وبذلك تأكد عدم إحاطة الإدارة الأميركية بملف الصراع الذي تقول: إنها عاقدة العزم على حلّه، خاصة فيما يخص واحداً من أكثر بنوده حساسية، وهو ملف القدس.
المشكلة الآن تعقدت أكثر، فإسرائيل التي لا تتراجع إلا تحت الضغط الميداني وتقوم بما هو سيء لها؛ درءاً لما هو أسوأ، قرأت أن استمرارها بالصلف سيطلق لا محالة انتفاضة شعبية فلسطينية عارمة، لن تتوقف حدودها داخل فلسطين المحتلة عام 67، بل ستشمل عرب الـ 48، وربما المنطقة كلها، خاصة وأن إدارة ترامب تطوي ملف الربيع العربي، وقد لا ينجح مخططها في تحويل وجهة الصراع الإقليمي، للاستمرار في إلهائه عن إسرائيل إلى إيران، فتعود النار كلها صوب إسرائيل، ويعود "الجهاديون" بذلك إلى رشدهم فيحولون حقدهم وغضبهم على الدولة العبرية.
لذا فقد أزالت البوابات وحاولت أن تخرج بما يحفظ ماء الوجه أو بأي مكسب من مثيل الكاميرات والحواجز الحديدية والجسور، لكنها تحت الضغط الميداني تراجعت وانهزمت.
لذا إسرائيل تريد أن تعوّض هزيمتها في القدس بنجاحات في الاستيطان، ومواقف أخرى، أما السلطة الفلسطينية فستكون أكثر تشدداً تجاه الإطار العام للمفاوضات، كما أن فوز آفي غباي برئاسة حزب العمل بدلاً من إسحق هيرتصوغ جعل سيناريو حكومة الوحدة الإسرائيلية أبعد، وما يزيد الطين بلة هو الأزمة التي أعقب بها صلف نتنياهو أزمة البوابات الإلكترونية مع الأردن.
فلم يكتف رئيس الحكومة اليميني المتطرف بنيامين نتنياهو بعدم اللباقة بالتعامل مع الأردن بوصفه صاحب الولاية الدينية على الأقصى، وأن القيام بأي إجراء يخل بحالة التوازن الدقيقة بالحالة فيه القائمة منذ العام 1926، أي قبل هبة البراق، والإبقاء عليها بعد العام 1967، وحسب، بل إنه أمعن في التنكر للأردن، البلد المسالم والنظام المعتدل، والذي تربطه بإسرائيل اتفاقية وادي عربة وحسن الجوار، فقام باستفزاز الشعب الأردني بكيفية إدارته للأزمة الناجمة عن إقدام ضابط أمن سفارته في عمّان على قتل أردنيين بدم بارد.
وأمعن في استفزاز النشامى الأردنيين الذين لا يقبلون الضيم ولا الإهانة؛ حين استقبل القاتل الإسرائيلي بالعناق، في الوقت الذي كان عليه أن يتصرف بلباقة وأن يستذكر موقف العاهل الأردني الراحل الملك حسين حين قدّم اعتذاراً عاطفياً مؤثراً بعد أن أقدم المجند أحمد الدقامسة على قتل الطالبات الإسرائيليات قبل نحو عقدين من السنين، وكان على نتنياهو وربما ما زال يتوجب عليه أن يقدم اعتذاراً رسمياً للأردن كما فعل تجاه تركيا بعد حادثة مرمرة، إضافة إلى التجاوب مع مقتضيات الإجراءات القضائية الأردنية بحق قاتل الأردنيين، ضابط الأمن الإسرائيلي.
إن إدارة واشنطن السيئة لملف أزمة البوابات الإلكترونية لم تقلل من فرص إطلاقها للعملية التفاوضية بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي _برأينا_ وحسب، بل إنها تهدد اتفاقيتي السلام المبرمتين بين إسرائيل والأردن "وادي عربة"، حيث كان يوم الجمعة الماضي وكذلك مراسم تشييع المواطن الأردني مناسبة لإطلاق الشعارات المنددة بالاتفاق والمطالبة بإسقاطه، وبين إسرائيل وفلسطين، أي اتفاق أوسلو الذي لم يبق منه _قبل أزمة البوابات الإلكترونية_ إلا التنسيق الأمني الذي أعلن الجانب الفلسطيني تجميد العمل به، وربما لا يعود إليه إلا بشروط جديدة.