انقشع غبار معركة فك الحصار عن المسجد الأقصى بإعلان المقدسيين انتصارهم على آلة القمع «الإسرائيلية» على إيقاع استشهاد محمد بعد محمد في المدينة وضواحيها، فالقدس تعيش منذ سنتين حالة صدام مع الاحتلال بسبب إجراءاته في المسجد ومحاولته تفريغه من المعتكفين المرابطين بداخله وإلغاء مصاطب الدرس وتكثيف الاقتحامات من المستوطنين، حيث اندلعت هبة السكاكين في أكتوبر/تشرين الأول منذ سنتين في المدينة بسبب الاعتداءات على المسجد.
الاحتلال بعد الهجوم من قبل ثلاثة شبان من أم الفحم على شرطته في المسجد حاول فرض وقائع على المسجد وتشديد قبضته عليه، لكن حساباته اصطدمت بردٍ قاسٍ من قبل شاب في مستوطنة غرب رام الله، حيث قتل ثلاثة مستوطنين، وكان موقف واشنطن كما يبدو رغم الاتصالات العليا بالإدارة الأمريكية كمن يحاول منح الاحتلال الوقت الكافي ليستكمل تدابيره ونصب أجهزته الإلكترونية في المسجد، ولم يأبه الأمريكيون للاتصالات العربية بهم، حيث أبلغ المبعوث الأمريكي جاريد كوشنر السلطة الفلسطينية بضرورة ضبط النفس وأنه سيزور المنطقة لاحقاً وكأنه ليس على عجلة من أمره، لكن حادث السفارة «الإسرائيلية» في عمان جعل المبعوث جرينبلات يهرع إلى المنطقة لإنقاذ الحارس «الإسرائيلي» القاتل، فالتقى نتنياهو ثم توجه إلى الأردن ورفض الرئيس الفلسطيني مقابلته بل ترك المقابلة لصائب عريقات، وفهم الفلسطينيون أن الجهد الأمريكي منصب على إنقاذ الحارس «الإسرائيلي» بعد أن رفض الملك الأردني الرد على مكالمات نتنياهو الذي كان يخطط لتسجيل إنجاز بالهيمنة المطلقة على المسجد الأقصى يحجب سلسلة الفضائح التي تلاحقه في الفساد، لكن عملية المستوطنة وحادث السفارة حشراه في زاوية، ثم جاء الحشد من أهل القدس حول الأقصى ليخلط الأوراق.
فالمدينة هبت للدفاع عن المسجد في وقفة شعبية نادرة أفقدت شرطة الاحتلال أعصابها أمام حجم التحدي، وبرز عنصر مفاجئ وهو وقف السلطة الفلسطينية التنسيق الأمني مع الكيان، وأعطت قيادة فتح لعناصرها مطلق الحرية في العمل الميداني خاصة في القدس، بل تلقت أجهزة الأمن الفلسطينية تعليمات واضحة بالدفاع عن المدن في حالة اقتحامها من الاحتلال كما حدث في هبة النفق سنة 1996، حيث شاركت قوات الأمن الفلسطينية في الاشتباكات وقتلت قرابة 17 جندياً «إسرائيلياً». هذا التطور ضغط داخلياً على حكومة نتنياهو، بالتزامن مع مسارعة المبعوث الأمريكي جرينبلات إلى زيارة مستوطنة حلميش قرب النبي صالح في الضفة مع السفير الأمريكي في «تل أبيب»، والاثنان يهوديان متدينان ولم يسبق لأي مسؤول أمريكي أن زار عائلة فلسطينية حتى لو كان أحد أفرادها يحمل الجنسية الأمريكية وتعرض لاعتداء من الاحتلال، بل حاول «الإسرائيليون» إبراز الحارس القاتل وكأنه بطل قومي، وشوهد وهو بحالة طبيعية مع نتنياهو ومع صديقته ولم يتعرض للطعن مطلقاً بل قتل النجار الصغير في الأردن بدم بارد مع الطبيب صاحب السكن ولم تحدث بينهما أية مشادة بل مجرد أن شعر الحارس بالخوف أطلق النار.
معركة القدس هذه ليست آخر المعارك، فالاحتلال لا بد أن ينتقم من المقدسيين لاحقاً ومن الرئيس الفلسطيني كما ورد على لسان ضابط «إسرائيلي» بأن «إسرائيل» ستحاسب أبو مازن لاحقاً، وبدأ الاحتلال في التحريض على سكان أم الفحم لأنهم خرجوا جماعياً في جنازة أبناء البلدة الذين نفذوا عملية القدس، واقترح نتنياهو كما اقترح وزير حربه ليبرمان على المبعوث الأمريكي ضم أم الفحم ووادي عارة ومدينة الطيبة إلى الضفة الغربية في أي حل مستقبلي مقابل ضم «إسرائيل» للكتل الاستيطانية إليها، أي ضم قرابة ربع مليون نسمة إلى الضفة مقابل ضم أجزاء إلى الكيان من الضفة، وهي مقايضة ليست في صالح الفلسطينيين.
لا أحد يعلم ما يخطط له الاحتلال ضد أهالي القدس الشجعان بعد وقفتهم البطولية الأخيرة، لكن من المؤكد أنه سينتقم ببطء منهم وينغص عليهم حياتهم ويبعد المزيد من المقدسيين عن الأقصى والبلدة القديمة ويشن حملات لجمع الضرائب والحجز على أملاكهم ويكثف الاستيطان والتطهير العرقي، فما فشل الاحتلال في فرضه حالياً سيفرضه لاحقاً بشكل مبرمج دون ضجيج في غياب أية خطط موازية لدعم القدس وأهلها وتثبيت صمودهم، فالمقدسيون يبذلون دمهم ومالهم دفاعاً عن مدينتهم ومقدساتها فما الذي يقدمه بقية المسلمين!
أسوأ ما سمعنا في هذه المعركة خطبة الجمعة الماضية في غزة لأحد قادة «حماس» فتحي حماد عندما قال: إن أهل القدس عادوا إلى دينهم، وكأنهم كانوا كفاراً حسب زعمه، فهو لا يرى الدم المقدسي على مدى السنوات الأخيرة وتجاهل عشرات الشهداء في مجازر الاحتلال في المسجد الأقصى، فانتصار المقدسيين ليس على الاحتلال فقط بل على أصحاب الجهالة المزايدين أيضاً.
عن الخليج الامارتية