أبو مازن، والمعارضة

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

من الطبيعي جدا معارضة وانتقاد الرئيس محمود عباس، ليس لأخطائه؛ بل لأن هذا الأمر متوقع وشائع في كل بلدان العالم، فلم يحدث في التاريخ أن حظي زعيم ما بإجماع شعبي حقيقي.. في أحسن الأحوال سيحظى برضا ومحبة الأكثرية، ولكن الأكثرية تعني أن هناك أقلية تقابلها.. وهذه الأقلية قد تكون أنشط وأكثر فاعلية وتأثيراً من الأكثرية، كما أن النسبة بينهما متغيرة على الدوام.
الشعب الفلسطيني شعب حر، ما يعني بداهة أن تأييد أو معارضة القيادة مسألة شخصية، لا يمكن ترويضها أو إخضاعها بالقوة.. أو بالإعلام الرسمي (كما يحصل في الأنظمة الشمولية).. وبالتالي، من المؤكد وجود فئات من الشعب الفلسطيني لا تؤيد أبو مازن، وليس فقط تعارض سياساته، بل وتكرهه شخصيا.. سيما وأن خطابه ليس شعبيا بأي شكل، بل أن صراحته غالبا ما تكون صادمة، حتى لمؤيديه.. وعلاوة على ذلك، فهو يمتنع عن استعمال الأساليب الشعبوية التقليدية لبناء رصيد شعبي، بل إنه لا يسعى لذلك.
الزعيم ياسر عرفات من قبله، رغم كل الكاريزما التي يتمتع بها، ورغم مسيرته الكفاحية الطويلة والمضنية، إلا أنه كان موضع انتقاد؛ كانت هنالك دوما فئات معينة تنتقده وتهاجمه بلا هوادة.. خوّنته حتى وهو في ذروة مجده وقمة عطائه، شككت فيه وهو يتقدم المجموعات الفدائية داخل الأرض المحتلة، واتهمته بالتخاذل أثناء تصديه جيش الاحتلال في معارك الجنوب، وصفته بأقذع الأوصاف في صموده البطولي في بيروت (قبل أن يكون هناك لا مفاوضات ولا حل سلمي)، واتهمته بالعمالة حتى وهو يسفك أيامه الأخيرة محاصَراً في المقاطعة.
الشعب الفلسطيني، ومنذ أن تشتت بفعل النكبة، وهو يعيش في ظروف وجغرافيا متباينة.. ومن الطبيعي أن يكون متباينا ومتناقضا في انتماءاته السياسية ومتنوعا في أفكاره وتوجهاته وولاءاته.. ومن المستحيل أن يُجمع على شيء.. كل هذا في حدود الطبيعي والمتوقع، بل والمطلوب.. لكن المسألة عند البعض ليست معارضة سياسية، ولا حرية رأي، ولا اختلاف في وجهات النظر.. المسألة تناقض رئيسي مع كل ما تمثله منظمة التحرير الفلسطينية.. البعض لا يريد المنظمة أساساً، ولا يعترف بشرعيتها، ويرفض كل ما يتصل بها.. يراها نداً وجوديا لمشروعه السياسي.. لذلك سيحارب كل ما له علاقة بها.. هؤلاء "البعض" فئتين (ولا يشترط وجود علاقة عضوية بينهما) هما: إسرائيل، التي ظلت لعقود طويلة ترفض الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني وحاولت بكل جهدها تفتيت وحدته السياسية، وتوصيفه ب"السكان" والتعامل معه على هذا الأساس، ورفضت بالتالي الاعتراف بالمنظمة، وسعت بكل قواها للقضاء عليها، أو لإيجاد بدائل عنها.. إلى أن توصلت لقناعة باستحالة ذلك، فغيرت سياساتها منذ تسعينات القرن الماضي، إلا أنها ما زالت في عقلها تتعامل معها كعدو، ينبغي هزيمته، أو إضعافه.
الفئة الثانية بعض قوى الإسلام السياسي، التي لديها برامج وأيديولوجيات ومشاريع تتعارض كليا (أو جزئيا) مع نهج منظمة التحرير ومشروعها الوطني وبرامج قواها وفصائلها.. هذه الفئة ترى أن كل نجاح أو إنجاز للمنظمة يعني تشكيك بصوابية نهجهم، وبالتالي سيحاربونها في كل الأحوال؛ ظالمة كانت أم مظلومة.
طبعا، لا يعني هذا أن كل من يعارض المنظمة، أو السلطة، أو القيادة سيكون تابعا لإسرائيل، أو من تيار الإسلام السياسي.. (لا أحد يقول بذلك)، فهناك قوى وطنية وفئات وشرائح اجتماعية كثيرة معارضة.. حتى من داخل المؤسسة الرسمية، ومن داخل فتح توجد معارضة.. بل إن أشد المؤيدين للقيادة تجدهم معارضين لها في وقت ما.. المعارضة بحد ذاتها ليست مشكلة، بل هي جوهر عمليات التطوير وتصويب المسيرة وتفادي الأخطاء.. المشكلة في المعارضة العدمية.
البعض يستسهل توجيه الاتهام للقيادة، وتحميلها كامل المسؤولية.. مع أن أي قيادة في العالم تتحمل جزءاً كبير من المسؤولية؛ إلا أن شعوب العالم الثالث درجت على تحميل قياداتها كامل المسؤولية، لأنها تعودت على تحميلها أحلامها وآمالها.. في خطابنا الإعلامي تضخيم لدور الزعيم.. القائد هو من يجب عليه تحقيق النصر، وهزيمة الأعداء، وبناء الدولة... الجماهير تغيّب دورها طواعية.. العلاقة بين القيادة والشعب معقدة، ومبنية على أسس مشوهة، الجماهير إما مجرد جنود وأتباع، أو على عداء مطلق مع القيادة.. علاقة صفرية لا تحتمل سوى لونين: الأبيض أو الأسود!!
البعض يعارض من أجل المعارضة، هؤلاء لا يعجبهم شيء، دوما مستنكفين، تطهريين لدرجة أنهم يرون أنفسهم فوق كل هذه المنظومة، بعضهم يعتقد أنه الأذكى والأكثر فهما، ومنهم من يأخذ الأمر بشكل شخصي.. ومع ذلك لهم كامل الحق بالتعبير عن رأيهم، وانتقاد ما يرونه خطأ.. المشكلة أنهم يبثون الروح السلبية، ويبعثون على الإحباط، ولا يقدمون أية مقترحات أو بدائل.. لا نسمع منهم إلا الشتائم والتوصيفات.. خاصة أولئك الذين يستظرفون أنفسهم، ولا يهمهم سوى تجميع "اللايكات".
مؤخرا، ابتدعت "المعارضة" تكتيكا جديدا للنيل من خصومها، أقل ما يقال عنه أنه إرهاب فكري.. حيث صار كل من يؤيد القيادة يوصف بأنه "سحيج"، أي منافق، ومنتفع.
لست هنا بصدد الدفاع عن أبي مازن؛ بل ربما لا أجد في سياساته الداخلية ما يستحق الإشادة، ولدي ملاحظات كثيرة.. لكنه، حسب رأيي، جنّبَ المنطقة ويلات الدمار والخراب، وفوّتَ على إسرائيل فرصة الاستفراد بنا، وحال دون تقديم تضحيات جسيمة كانت ستذهب بلا طائل، لأنه أدرك بحكمته أن موازين القوى مختلة بشكل فادح، وأن الظروف الدولية لا تسمح بأية مغامرة، وأن إسرائيل الدولة الوحيدة المستفيدة من كل الحروب العبثية التي تجري في المنطقة، وأنها بوسعها استغلال الفوضى التي سنجلبها لأنفسنا لتمرير رؤيتها للحل النهائي.
أبو مازن، حتى لو لم يعجبنا، هو الرئيس المنتخب، الذي عبّر عن برنامجه ورؤيته بكل صراحة ووضوح، وما زال ملتزما به، وهو الشخص الوحيد الذي يعترف به العالم ممثلا عن الشعب الفلسطيني، وقائدا له، ويتعامل معه على هذا الأساس.. صحيح أن المدة القانونية لولايته قد انتهت، كما انتهت ولاية المجلس التشريعي، وأن المخرج الصحيح والوحيد هو إجراء انتخابات عامة (رئاسية وتشريعية).. لكن من يعطل إجراء هذه الانتخابات حركة حماس.
وجود المعارضة أمر عادي جدا، ومطلوب.. على أن تكون معارضة وطنية مسؤولة وإيجابية.