بدت تلوح في الأفق السياسي الوطني آمال ومراهنات لم تكن مطروحة على جدول الأعمال قبل "إنجاز" القدس، وربما تكون قد بدأت فعلاً مرحلة البحث الجاد والمسؤول عن مخارج وطنية واقعية وممكنة من حالة الاختناق السياسي الناجمة عن بقاء الانقسام جاثماً وثقيلاً ومرهقاً على الجسد الوطني كله.
قام الشعب وفي المقدمة منه أهلنا في القدس بالتعويض عن حالة الانقسام بأن هَبُّوا هَبَّةَ رجل واحد في مواجهة إجراءات الاحتلال على أبواب الحرم الشريف، واستطاعوا أن "يغطوا" على عورة الانقسام، وكان لاستجابة ومبادرة القيادة السياسية الأثر البالغ في الوصول إلى هذا الإنجاز الهام. لكن هذا الإنجاز بالذات بقدر ما كان هاماً ومفصلياً في ظروف هي غاية في الخطورة والحساسية فقد كان فاتحةً لمرحلة جديدة:
فإما أن يتم استكمال هذا الإنجاز بتسريع كل وتيرة وطنية تهدف إلى لمّ الصفوف والتقاط كل بادرة من شأنها أن تشجع المسار في هذا الطريق بعزيمة وإرادة سياسية صلبة، وإما أن تجهض كل هذه الآمال وكل هذه الآفاق التي منحتها هَبَّة القدس على المخارج الوطنية للأزمة الوطنية التي يمثل الانقسام فيها حجر الرحى الحقيقي.
نحن نعيش في كنف وهمين كبيرين في الواقع:
الوهم الأول، وهو وهم أن للفلسطينيين ظهيراً حقيقياً في الواقع العربي القائم، مستعدا لدعم الخيارات الوطنية.
والوهم الثاني، أن للفلسطينيين ظهيراً دولياً قادراً على إظهار دعمه والذهاب به إلى النهاية في مواجهة العدوانية التوسعية والعنصرية المتصاعدة في إسرائيل.
ليس المقصود أبداً عدم العمل في هذين الحقلين بل ان العكس تماماً هو الصحيح وهو المطلوب.
المقصود أساساً هنا هو أنه بدون أن يجد الشعب الفلسطيني طريقه إلى توحيد الصفوف، وبدون أن يجد الآليات الواقعية لإعادة بناء نظامه السياسي على أسس سياسية قوية وعلى مرتكزات ديمقراطية راسخة، فإن الحلقتين العربية والدولية لن يصلح حالهما، ولن تمثلا قوة حقيقية في محاصرة السياسات الإسرائيلية وصولاً إلى إحباط كل خططها ومخططاتها.
اقصد أن معركة القدس قد أوجدت للمرة الأولى منذ ما يزيد على عشر سنوات فرصةً قد تكون نادرة لتفعيل الحلقة القومية الإقليمية والحلقة الدولية عَبر البوابة الوطنية وعَبر تصحيح المسار الداخلي للأزمة الوطنية.
وإذا أردنا تحديد المسائل بصورة أكثر صراحة وأكثر دقة فإن لدى الفلسطينيين أوهاماً أخرى تخصهم وحدهم وتتعلق بهم أساساً، وتتصل بسياساتهم ومواقفهم وأدائهم وآليات عملهم ومنطلقات تفكيرهم.
أول هذه الأوهام وأخطرها هو الوهم الذي تعاني منه حركة حماس ومن لفّ لفّها من أنها عَبر السيطرة والتحكم بقطاع غزة ممكن أن تعزز مواقعها الوطنية، وأن تضمن لنفسها المكان والمكانة في مؤسسات النظام السياسي في فلسطين.
أكاد أغامر بالقول بأن العكس تماماً هو الصحيح.
بمعنى أن حفظ مكانة ومكان حماس في النظام السياسي أصبح مرتبطاً ومعتمداً على درجة تقليص حركة حماس قبضتها على قطاع غزة، وربما أن تخلّي حركة حماس عن هذا التحكم وهذه السيطرة أصبح المدخل الوحيد لكي تأخذ حركة حماس الحيز الحقيقي الذي يجب أن تشغله.
كما بات واضحاً لكل أهل البصيرة في بلادنا أن "العبء" الاقتصادي والاجتماعي للقطاع أخذ يقضم كل يوم مساحة جديدة من المكانة السياسية للحركة، وهي لن تصل إلى نتيجة على هذا الصعيد بأية مسكّنات أو حقن أو إغراءات أو وعود، وان البحث عن المسكّنات لتأجيل "الانفجار" القادم سيجعل من الانفجار مجرّد حالة مؤجّلة ولكنها قادمة بكلفة أعلى وأكبر ربما لا يقاس على حركة حماس قبل غيرها.
أما الوهم الفلسطيني الداخلي الثاني فهو اعتبار هذه السياسة الأميركية التي نشهد بعض فصولها الغامضة والملتوية وكأنها مرحلة ما قبل "الصفقة" التاريخية، وهي مجرد محطة انتظار مؤقتة ستنتهي عما قريب وستسفر عن مبادرة أميركية تتضمن عناصر هذه "الصفقة".
هذا الوهم سيحيل الحالة الوطنية إلى حالة مؤقتة، رخوة وانتظارية، ليس فيها أية أبعاد للمبادرات الوطنية، وليس فيها سياسات فعلية تحول الاحتلال إلى حالة كلفة عالية بدلاً من بقائه مكاسب إسرائيلية خالصة بدون كلفة حقيقية.
هذا الوهم لا يمكنه توفير فرص النهوض الوطني ولا يمكنه المساهمة في إعادة بناء الذات الوطنية بما يمكِّن الشعب الفلسطيني من إعادة الإمساك بزمام القضية الوطنية وإعادة وضعها على سكة التحرر الوطني الناجز.
أصبح ممكناً الآن الآن وليس غداً أن يفتح الحوار مع حركة حماس على مصراعيه، وخيراً فعل سيادة الرئيس أن بدأ بجسِّ النبض مع قيادات حمساوية في الضفة، وخيراً سيفعل إن أمر بسرعة معاودة اجتماعات "بيروت" وإعادة الحياة بنبض سريع لكل التحضيرات التي تكفل عقد دورة قريبة للمجلس الوطني، بل وعقد اجتماع سريع للمجلس المركزي قبل موعد انعقاد المجلس الوطني.
إذا تسارعت خطوات العمل على إصلاح هياكل المنظمة، وتسارعت الخطوات نحو عقد كل الحوارات التي يجب أن يتم من خلالها التوافق على مضمون وآليات إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني، فإن معركة القدس وإنجاز القدس سيكون فعلاً وليس قولاً فقط فاتحة مرحلة جديدة.
دعونا نقم وبسرعة بواجبنا البيتي، ودعونا نحشد قوانا ونوحِّد صفوفنا، وحينها دعونا نراقب معاً كيف أن الحلقة العربية ومن ثم الحلقة الدولية ستتحولان سريعاً من حالة العجز والارتخاء إلى حالة جديدة تنبض بالحيوية وبقوة الدفع الأمامية.
مهما كنا غاضبين وحانقين على الحالة العربية الرسمية والحالة الدولية الرسمية، فإن غضبنا ليس له ما يبرره قبل أن نوحِّد صفوفنا وكلمتنا وأدواتنا، وقبل أن نمتلك شجاعة تجاوز واقعنا.