على الرغم من الاختلاف في الديمومة (نهاية "داعش" السريعة نسبياً، كطور في سلسلة التحولات الكافكية للأصولية)، يكاد مشروع "داعش" والمشروع الصهيوني في فلسطين يتطابقان في التكوين والأدوات والمبدأ، وربما المصير. ويمكن تعقب مجموعة من التماثلات بين الكيانين، ومنها من بين أخريات:
أولاً: انطلق مشروع "داعش"، مثل المشروع الصهيوني (إسرائيل)، من تبريرات ودوافع لاهوتية لتحقيق مشروع دنيوي. وهدَفَ كلا المشروعين إلى إقامة دولة في أراضٍ محتلة، بإحالة دينية واضحة: "الدولة الإسلامية" هنا، و"إسرائيل" (أرض الأجداد) هناك. والأساس إحيائي أصولي متشدد في الحالتين، حيث يزعم "داعش" استعادة الخلافة القديمة، ويزعم الصهاينة استعادة "أرض الميعاد"، أو "أرض إسرائيل"، ليقيما -بولاية إلهية- "الخلافة العالمية، و"إسرائيل الكبرى" على التوالي.
ثانياً: من حيث النشأة والدعم، أنشأ الحركتين ساسة أيديولوجيون، استخدموا النصوص المقدسة كأساس للتحشيد، وانضمت إليهم عناصر تشعر بالعزلة والظلم. وكان المصدر الذي ساعد صعود مشروعي الحركتين الأصوليتين، هو نفسه: الإمبريالية العالمية، ممثلة ببريطانيا ثم الولايات المتحدة ومدار نفوذها في حالة "إسرائيل"، والولايات المتحدة أيضاً ومدار نفوذها في حالة "داعش".
في الحالة الصهيونية، كان أول الدعم هو وعد بلفور، الذي سهل تصدير منفذي المشروع الاستعماري إلى فلسطين؛ وبعد ذلك، انتقلت رعاية "إسرائيل" إلى الولايات المتحدة، سواء بسبب خدمة الكيان غرض إدامة أزمة المنطقة، أو بسبب ضغط اللوبي اليهودي وقدرته على شراء قرار المؤسسة السياسية الأميركية. وفي حالة "داعش"، تأسس سلفه، تنظيم القاعدة، بشكله المدرب والمسلح الفاعل بتخطيط ودعم أميركيين، ليتم استخدامه ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان. ومن ذلك الأصل نفسه، تكون تنظيم "القاعدة في العراق" الذي أنجب "الدولة الإسلامية في العراق وسورية". وهكذا، انتهى المطاف بمقاتلي "الفيلق اليهودي" الذي تدرب في أوروبا، و"مقاتلي الحرية" الذين تدربوا في أفغانستان، إلى العمل في نفس المنطقة: الشرق الأوسط وقلب المنطقة العربية.
ويُلاحظ أن أساليب الحركتين ودعايتيهما جلبت لهما أيضاً متطوعين غير أيديولوجيين من عشاق المغامرة أو المال. وعلى سبيل المثال، كان جزء كبير من طياري سلاح جو الكيان في بداياته من متقاعدي حرب فيتنام المحترفين، ممن جذبهم المشروع الصهيوني، كما انجذب إلى "داعش" أناس من نفس النوع. كما أن تكوين أتباع الكيانين ليس قومياً، وإنما ديني، حيث جمعت الصهيونية اليهود من كل جنسية، وجمع "داعش" المسلمين من كل جنسية أيضاً.
ثالثاً: من حيث التأثيرات، كان نتاج عمل المشروعين هو تمزيق المنطقة العربية وإعدام إمكانياتها وتأزيم سكانها. وسار التدمير والقتل ومنح الأنظمة الاستبدادية ذريعة للاستيلاء على حريات المواطنين ومصائرهم في ركاب الدواعش والمشروع الرجعي الذي يمثلونه، بقدر ما فعل مع "الإسرائيليين" الذين ساعدوا رعاة الرجعية والتخلف في المنطقة بنفس المقدار.
رابعاً: من حيث آليات تنفيذ المشروعين، كانت الفكرة هي احتلال الأرض وإخضاع السكان والتوسع حيث يمكن. وقد استخدم "داعش" في المناطق التي احتلها نفس أساليب الصهيونية في فلسطين: المذابح والتخويف والقمع الوحشي للسكان، والتسبب بهجرة المختلفين أو إبادتهم لخلق مجتمع "نقي" مخلص للأيديولوجية –إسلامي أصولي في حالة "داعش"، و"دولة يهودية" حصرياً في الحالة الصهيونية. ولا تختلف آليات "التوحش" الداعشية عن توحش الكيان الصهيوني في التكوين والتجسيدات، ولو أنهما ربما يختلفان قليلاً في طريقة "إدارة" التوحش ونتائجه. وإذا كان "داعش" قد أراد بفظائعه استدراج الجيوش ليهزمها في "دابق" ويجلب نهاية العالم، وفشل، تمكن المشروع الصهيوني من جلب الجيوش إلى فلسطين، وهزمها ونجح.
خامساً: من الملفت أن المشروعين، الداعشي والصهيوني، لم يتصادما، على الرغم من التناقض الظاهري بينما. وفي الحقيقة، ثمة علاقة تكافلية واضحة في عمل المشروعين اللذين يكمل أحدهما ما بدأه الآخر. ففي حين يحيل معظم المحللين صعود التطرف الأصولي الذي أنجب "داعش" –جزئياً- إلى المظالم التي صنعها وجود "إسرائيل" في المنطقة، وساعدت التنظيم في التجنيد، قدم برنامج "داعش" الطائفي خدمة لا تقدر بثمن للكيان، حين إعاد توجيه الاصطفافات في الإقليم على أساس داخل-إسلامي طائفي، لصالح تعتيم التناقض الأساسي مع مشروع "إسرائيل" العدواني. كما شغلت "مكافحة الإرهاب" الذي يمثله "داعش" مؤخراً انتباه المنطقة ومواردها تماماً عن الكيان، وأضعفت أي إمكانيات أو نوايا –إذا توفرت لدى أي جهة- لمعارضة مشروعه.
على الرغم من نقاط التشابه الكثيرة بين كياني "داعش" و"إسرائيل"، فإن أحد الفوارق المهمة هو اعتراف جزء مهم من العالم بـ"دولة إسرائيل"، بدءاً من قرار التقسيم الذي أقرته الأمم المتحدة بُعَيد نشأة كيان الاحتلال، في حين لم يعترف أحد بـ"دولة الخلافة" الداعشية.
ومع ذلك، يشترك الكيانان في أنهما تكوينان مكروهان إلى حد كبير أيضاً. وفي حين وجد "داعش" الإدانة والإنكار من المسلمين أنفسهم إضافة إلى بقية العالم، تواجه "إسرائيل" الإدانة من قسم مهم من اليهود، إضافة إلى القانون الدولي والمنظمات الإنسانية وبعض الدول التي تستطيع المجاهرة بالنقد. وعلى سبيل المثال، حمل يهودٌ أرثوذوكس يافطات أمام مقر "آيباك" في الولايات المتحدة، تقول: "دعم (إسرائيل) ليس دعم اليهود واليهودية". وهناك حركة "جيه ستريت" اليهودية المنتقدة لدولة الكيان بشدة، وحركة "ناطوري كارتا" اليهودية-الفلسطينية. وهناك التغيرات في وجهات نظر الشباب اليهود في أوروبا في اتجاه فقدان الأوهام إزاء "ديمقراطية إسرائيل". كما يشير النجاح الكبير الذي تحرزه حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات العالمية المناهضة لسياسات الكيان إلى المزيد من عزل الكيان.
بالإضافة إلى ذلك، ثمة أصوات مهمة، أصبحت تجرؤ على استنطاق جدوى التحالف بين الولايات المتحدة ودولة الكيان. وعلى سبيل المثال، نشر الأكاديميان الأميركيان ستيفن وولت وجون ميرشايمر كتاباً عن "تأثير اللوبي الإسرائيلي في السياسات الخارجية الأميركية"، وعرضا فيه الأضرار الأخلاقية والموضوعية التي تتعرض لها الولايات المتحدة جراء اقتران سياساتها بسياسات دولة الكيان. كما يساهم عدد متزايد من الكتاب والمؤرخين اليهود في فضح الأسس غير الأخلاقية التي قامت عليها "إسرائيل" على حساب الشعب الفلسطيني.
هذه العيوب البنوية في تكوين "إسرائيل" والتي تشبه عيوب "داعش"، تقترن بحقيقة أن الكيانين يظلان صغيرين نسبياً ويعملان في محيط من الأعداء. بل إن "داعش" الذي يصل إلى نهايته في طور "الدولة" على الأقل، يعمل في محيط أكثر تقبلاً باعتباره يطرح برنامجاً إسلامياً، مقارنة ببرنامج كيان الاحتلال المعادي تماماً للعرب والمسلمين، في قلب منطقتهم. لكن الذي أتاح لـ"داعش" و"إسرائيل" الازدهار (دون إغفال الفارق في العُمر)، لم يكن القوة الذاتية بقدر ما هو ضعف النقيض. وهذه المعادلة قابلة للتغير في أي لحظة، كما حدث فعلاً في حالة "داعش"، وربما يحدث في حالة "إسرائيل".
ربما كانت الصفة الأبرز في نهج الكيانين هي الصلف والغرور. وقد عمل "داعش"، مثلما عملت "إسرائيل" وما تزال، على الاستفزاز الدائم لمشاعر الشعوب والدول دون اعتبار لردة الفعل الممكنة. ومثلما تعمد "داعش" إعدام أسراه من مواطني الدول الأخرى على الملأ، يعمد الكيان إلى إهانة مشاعر الشعوب العربية، سواء بقمعه الشرس للفلسطينيين، أو باستهداف مواطنين عرب، كما فعل أثناء عملياته العدوانية في لبنان وسورية ومصر، وأخيراً سلوك حكومته الاستفزازي في حادثة سفارته في عمان. وتاريخياً، كانت صفة "الغرور" أولى الخطايا التي غالباً ما تذهب بصاحبها إلى نهايات مأسوية.
في حالة "إسرائيل"، المتقنفذة والمتوترة برغم كل التنمر الخطابي، يتعقب معظم المعلقين الوجهات إلى حتمية تعريف الكيان بحقيقته: نظام فصل عنصري، يمارس التمييز الوحشي ضد قسم كبير من مواطنيه، بالإضافة إلى كونه كيان احتلال. وربما يكون هذا التعريف أكثر خطراً على الكيان من الخطر العسكري الذي يبدو غير محتمل في المستقبل القريب. وقد عبر الكاتب الفيتنامي الأميركي، لِن دِن، عن احتمالات هذا المصير في مقال له بعنوان "نهاية إسرائيل"، والذي كتب في خاتمته: "ثمة دولة فصل عنصري أخرى، جنوب أفريقيا، والتي أُجبِرت على إعادة تشكيل نفسها بعد أن أُدينت ونُزِعَت عنها الشرعية على نطاق عالمي، وبالتالي، فإن نهاية إسرائيل بادية في الأفق. ومن دون هذا النهج الذي لا نهاية له من العناد والكذب المتواصل، سيكون العالم مكاناً أفضل بكثير. آمين".
كما أظهرت حالة "داعش"، فإن الوحشية والعدوان ليستا أفضل وصفة للديمومة. وفي حالة هذه الكيانات المصنوعة، تنتهي إمكانيات الوجود بمجرد شعور الجهات الراعية بأن أضرار هذه الرعاية ترجح على فوائدها. وسيكون مصير "إسرائيل" مرهوناً إلى حد كبير بشعور أميركا والغرب بثقل العبء الأخلاقي والمادي الذي يرتبه الاستمرار في رعاية كيان احتلال عنصري، بقدر ما يرتبط ذلك بتغيُّر ربما يأتي في الحالة العربية.
عن الغد الأردنية