قدم المفكّر د.خضر محجز لكتاب "ثقافة الهبل وتقديس الجهل"، للكاتب جميل السلحوت، الصّادر عن مكتبة كل شيء الحيفاويّة.
فكتب د.محجز، يريد منّي المؤلّف الجميل جميل أن أقدّم لكتابه. والحقّ أن كتابه لا يحتاج منّي إلى تقديم، فالمؤلّف يطرق أبوابا، ويعرض صورا، ويقدّم أرقاما وووثائق، تغنيه عن كلّ تقديم. إضافة إلى لغة جزلة ميسّرة سهلة التّناول، لأنّ هدفها الوصول.
هذا كتاب يهتم برصد مظاهر الهبل في المجتمع الفلسطينيّ، مجتمع شعب الجبّارين الذي لا يرى أحدا يفقه شيئا باستثنائه.
وإنّها لحقيقة مؤلمة أن يكون الأمر على هذه الشّاكلة. وقد تنبّه المؤلف إلى العديد من مظاهر هذه الشّوفينيّة الثّقافيّة ــ إن صح التّعبير ــ التي ترى في نفسها منتجة للمعرفة، فيما هي لا تنتج أيّ شيء سلبيّا كان أم إيجابيّا.
يترفّق جميل السلحوت بشعبه ــ ولا أوافقه على هذا ــ إذ يعتبر الكثير من مظاهر الشّوفينية مجرّد هبل. وهو في الحقيقة هبل مركّب؛ لأنّه يرى نفسه أعقل العقلاء، ويرجو من الآخرين أن يحذوا حذوه؛ مع أنّ علاج الأمراض لا يكون إلا بمواجهة المرض، والاعتراف به، لمعرفة نوع الدّواء.
أمّا عن الثّقافة التي يطوف المؤلّف في المعاجم لرصد وصفها، فأغلبها لا تقدّم له الدّليل المطلوب، لأنّ هذه المعاجم جزء من الهبل العربيّ العامّ، إذ تدور في فلك كل ما هو قديم، مع أن مفردة الثّقافة تحيل إلى واقع جديد. فالثّقافة باختصار هي المفاهيم القارّة في الوعي وما وراءه، وتشكّل شخصيّة الأمّة، أو هي ــ بتعبير آخر ــ ما تراه مجموعةٌ بشريّة ما يمثّلها، وما تستحقّه. وعلى هذا فثقافة أمّة إنّما هي صورة الأمّة في عينها، بعيدا عن إن كان ذلك حقيقيّا أم غير ذلك. بل يمكن القول إنّها في الغالب غير ذلك.
وما يراه الشّعب الفلسطينيّ في ذاته أنّه أعظم شعب، نشأ قبل التّاريخ وقبل الحضارة، وأنّه هو الذي علّم آدم الأسماء كلّها. بل إنّه ليظنّ أنّه عصيّ على الاندثار، مردّدا في ذلك مقولات أثبت الواقع زيفها، من مثل: الشّعوب لا تبيد. والحقيقة أنّ التاريخ يحدّثنا مرارا عن شعوب بادت ولم يعد لها أثر.
إنّ هذا الحجم من الادّعاء يميّز شعوبا عديدة، لكنّه يوشك أن يكون الخِصيصة الأوضح لدى شعب لا يملك الكثير.
هل هذا هو الهبل الفلسطينيّ، وهذه هي ثقافة الهبل لدى شعب الجبّارين.
ورغم أنّ المؤلف يطوف بالعديد من مظاهر الهبل العربيّ، إلا أنّه في غالب الأمثلة يقدّم لنا صورة منتزعة من واقع فلسطين:
فمن حمق خطباء المساجد الذين يهدّدون المصلّين الذين هم في الغالب أعلم منهم؛ فيعدونهم بالجحيم؛ لكي يكونوا مثلهم جهلا وتواكليّة، مركّزا في ذلك على بعض أسباب هذا (الحمق الدّينيّ) فيورد أهمّها: حيازة الكلّيّات الشّرعيّة على القسم الأكبر من راسبي الثّانوية العامّة أو النّاجحين بالكاد، ولا تقبلهم الكلّيّات الأخرى؛ حتى باتوا يعلنون من على منابرهم (التي سمّاها حمقهم: منابر رسول الله، وما هي منابر رسول الله) الجهاد ضدّ شعبهم، حتى تحوّل مفهوم الجهاد في سبيل الله، ليغدو مرادفا للجهل الذي هو ــ بلغة المؤلّف ــ أساس كلّ المصائب.
إلى التناقض بين قولهم وفعلهم في التّعامل مع المرأة، إذ يحتفلون بعيد الأمّ، ثمّ يعتبرونها ناقصة عقل ودين، يجب منعها من الخروج حتى لا تأتي للأمّة بالمصائب، ثم يعاقبونها بما لا يعاقبون به الرّجل، حتى لو كانت الجريمة واحدة ومشتركة.
إلى الدّعاء في المساجد على شركاء الوطن والجيران، المختلفين دينيّا.
ثم يسلّط الضّوء على أكذوبة التّنوير الدّينيّ التي يروّج لها متشدّدون دينيّون يخيّروننا بين داعش والإخوان المسلمين. وكأنّهم يخيّروننا بين السّيّء والأسوأ.
إلى "فضائيّات الهبل العربيّ" التي تحوّلت إلى منابع لبثّ الحمق والجهل في المجتمع على نطاق واسع، مدفوع الثّمن.
إلى هبل الفيسبوك الذي أقلّ ما يقال فيه أنّه يسمح لجاهل دعيّ أن يهدّد النّاس بأن يشطبهم من قائمة الأصدقاء، كأنّه يقدّم لهم ماء الحياة على صفحته، فيما هم يزورُّون عن ورودها! دع عنك القبيحات اللاتي يتخفّين وراء صور ليست صورهنّ، ليصطدن من الحمقى ذكور النّحل؛ وصور موائد الطّعام الباذخة تعرض على الجائعين.
إلى الاستغلال الجنسيّ باسم الدّين، إلى هذه الأزياء الغريبة الفجّة التي يرتديها أناس يعتقدون أنّ رسول الله جاء بها من السّماء! إلى استهبال الحكّام للشّعوب بغطاء دينيّ، يؤمّن لهم نهب المال والاستعانة بالكفّار لنهب ثروات الأمّة، إلى استهبال شركات توظيف الأموال للفقراء لنهب مدّخراتهم؛ إلى الاستهبال الطّبّيّ للنّاس بإغرائهم أنّ الدّين فيه علاج كلّ الأمراض الخطيرة، شرط دفع الثّمن... إلخ.
كلّ ذلك ــ وأكثر منه ــ يعرض المؤلّف نماذج له، لعلّ أشدّها فسادا فساد المؤسّسات التي يقال لها مؤسّسات ثقافيّة، وما هي بثقافيّة، بل مرود نهب لفئة من المنتفعين لكلّ أموال المساعدات، التي تصل بكثرة، كان يمكن لها أن تفعل الكثير من الأمور الجيّدة، لو أُحسن توظيفها، أو لو لم تتمّ سرقتها استهبالا لأصحابها المستحقّين.
لا يكتفي المؤلّف بعرض المثال، بل يرفد ذلك ويغنيه بالعديد من الأرقام والحقائق والمصادر المعلوماتيّة، التي لا غنى عنها لمعرفة كيف يستهبلنا المستهبلون.
وبعد، فهذا كتاب لا يغني عرضه أو تقديمه، عن قراءته. فإلى الأمام أيّها الجميل السلحوت.