فورة من المبادرات والمواقف على خلفية إنهاء الانقسام، تجلت في سيل متدفق من المبادرات التي طرحت خلال 48 ساعة فقط من جهات مستقلة وتنظيمية في الضفة والقطاع، فورة أقرب إلى الفقاعة، إذ سرعان ما تلاشت ولم تعد موضع نقاش أو حوار، وفي الغالب كانت في مجموعها موضوعاً للتندُّر على ضوء جملة التقاطعات والتصادمات ـ في حين ـ بين مختلف هذه المبادرات والمواقف، وفي حين رأى البعض أن مبادرتي حركتي فتح وحماس، انعكاس لحالة التهرب من المسؤولية باتجاه تحميل كل طرف مسؤولية استمرار الانقسام إلى الآخر، وترجمة دقيقة "للحرب الباردة" بين الطرفين، يرى بعض آخر، أن المبادرات المستقلة جاءت بهدف تذكير الرأي العام بوجود هذه الجهات وأنها لا تزال على قيد الحياة رغم غيابها عن المسرح طوال فترة طويلة، في وقت لم تكن هناك من فرصة حقيقية لتناول الرأي العام لما تضمنته هذه المبادرات من بنود ومواقف، فالرأي العام منشغل في ترتيبات البقاء على قيد الحياة أكثر من ترتيبات القضايا المركزية والوطنية السياسية، وأعتقد أن الرأي العام، والنخب السياسية المستقلة على حد سواء، لم يتوقفوا، قليلاً أو كثيراً أمام هذه البنود والمواقف، التي باتت معروفة إضافة إلى الشعور بالاحباط وعدم الجدوى، إلى حد يمكن القول معه أن واضعي صياغة هذه المبادرات والمواقف، هم أنفسهم أكثر قناعة بعدم الجدوى، لكن تدفعهم مسؤوليتهم الوطنية لعدم الوقوف مكتوفي الأيدي والأقلام أمام الكوارث الناجمة عن استمرار حالة الانقسام والانفصال، وإيماناً بنظرية "التراكم الكمي المتحول إلى تراكم نوعي" وهي إحدى نظريات الفلسفة الماركسية، التي في الغالب لم تكن في وعي أو معرفة من صاغ هذه المبادرات والمواقف!
تزامن هذا السيل من المبادرات التنظيمية والمستقلة على حد سواء، جاء اثر حدثين هامّين: انتصار الحراك الشعبي الفلسطيني في الأقصى، ولقاء الرئيس أبو مازن مع الوفد القيادي في حماس في رام الله، الأمر الذي كان يمكن معه، إيجاد ثغرة في جسم المعيقات والاستعصاءات التي وقفت حائلاً ودون التوصل إلى تفاهمات تؤدي إلى إنهاء الانقسام، مع أن الأمر لم يعد بحاجة إلى مبادرات جديدة، فالأرشيف الفلسطيني على هذا الملف حافل بالعديد من تلك المبادرات التي تم التوافق نظرياً عليها، تلك المبادرات التي عبرت الأمكنة والأزمنة، منذ الانقسام مروراً بعواصم عديدة ومدن كثيرة ووسطاء كثر!
وإذا كان الأمر كذلك لدى الحديث عن المبادرات المستقلة، فإن مبادرتي فتح وحماس، عززتا القناعة بأن ليس هناك من إرادة حقيقية لإنهاء الانقسام، ذلك أن كل طرف يحاول أن يُحمِّل الآخر مسؤولية الكارثة، وكل طرف يسعى لفرض "تنازلات" على الطرف الآخر، وفي سياق صياغة المبادرتين، فإن كلا منهما يطلب من الآخر البدء بتنفيذ الشروط غير المقبولة أساساً، من هنا جاءت اقتراحات إضافية جديدة من قبل بعض أصحاب الرأي، بالعودة إلى مبدأ "التزامن" للتنفيذ، الأمر الذي من شأنه أن يكشف عملياً عدم توفر الإرادة الحقيقية لإنهاء الانقسام، إلاّ أن فرض مبدأ التزامن لا يمكن أن يحل المشكلة إذا كانت عناصر كل مبادرة مرفوضة أساساً من الطرف الآخر، خاصة ونحن نلاحظ أن شروطاً جديدة إضافية أخذت تشق طريقها إلى بنود بعض المبادرات!
مع ذلك، فإن هذا السيل المتدفق من المبادرات يضعنا أمام الأسئلة الصعبة والإجابات المستحيلة، وهذه أهم حسنات وإيجابيات طرح هذه المبادرات، فإذا كان هذا الحراك قد جاء على خلفية الانتصار الشعبي في الأقصى، فلماذا لا ينتصر هذا الحراك الشعبي الذي يقوده الرأي العام الفلسطيني في مواجهة العقبات الصعبة أمام إنهاء الانقسام؟ لماذا لا يتحرك الرأي العام، كما فعل في الأقصى، لفرض إرادته على أطراف الانقسام وإخضاعها لإرادة الشعب؟! خاصة وأن الحراك حول الأقصى قد تجاوز الفصائل على اختلاف أشكالها وتلاوينها وخلافاتها، لماذا لا يتجاوز هذا الحراك نفسه كل المعيقات والصعوبات التي حالت حتى الآن دون أن يلعب الرأي العام الفلسطيني دوره ومسؤوليته في إنهاء الانقسام؟!
وسؤال آخر على هذا الصعيد، إذا كانت كافة المبادرات السابقة، المحلية والعربية وحتى الإقليمية، قد فشلت في وضع حد للانقسام، لماذا الاستمرار على نفس الأسلوب بالتقدم بمبادرات مستقلة جديدة مستنسخة من مبادرات سابقة مع تعديلات طفيفة أحياناً؟ لماذا لا يبحث أصحاب هذه المبادرات الفاشلة عن أسلوب آخر بدلاً من التمترس وراء صياغة مبادرات تتلوها مبادرات؟ ألا يكشف ذلك عن عجز شديد لدى النخب السياسية، التي تستنسخ أسلوبها القديم الفاشل بدلاً من البحث عن أنماط جديدة ووسائل مختلفة لمواجهة انعدام الإرادة السياسية لإنهاء الانقسام والانفصال؟ ربما تذكرنا المبادرات الأخيرة، بأنه آن الأوان للتوقف عن هذه المبادرات والبحث عن بدائل وأنماط مختلفة!!