مصطلح «الإسلام السياسي» ليس تُهمة لأحد، أو انتقاصاً من شأنه، بل هو توصيف للجماعات والأحزاب الدينية التي تعمل في المجال السياسي، والتي هدفها المعلن أو الخفي هو الوصول للسلطة، مستخدمةً في سبيل تحقيق أهدافها السياسية «الدينَ» كوسيلة وأداة وأحياناً كغطاء.. والهدف الثاني من نحت هذا المصطلح هو لتمييز الإسلام كدين عن الأحزاب التي تعمل تحت غطاء هذا الدين، بحيث ننأى به عن الأغراض البشرية، ونحول دون تلويثه بأوحال السياسة. وحتى نميز بين الإسلام الذي يدعو للحق والعدالة بالحكمة والموعظة الحسنة، وبين الأحزاب التي تتسربل بلبوس الدين وتسعى لتحقيق أهدافها بالتفجير والتكفير وتشويه الآخرين.
برزت قوى الإسلام السياسي في عصرنا الراهن لأول مرة بتأسيس جماعة الإخوان المسلمين، والتي منها انبثقت معظم الجماعات الأخرى، التي أخذت تتكاثر بشكل خاص في عهد السادات، ثم تعاظمت قوتها بدءاً من ثمانينات القرن العشرين، مع انتصار الثورة الإيرانية، واندلاع الحرب الأفغانية.
هذه الأحزاب جاءت نتاجاً حتمياً لحالة التراجع السياسي والثقافي العام، ونتيجة إخفاق القوى التقدمية في تحقيق أهدافها؛ فقد أدى فشل القوى الثورية وانكفائها على ذاتها إلى خلق المناخات المؤاتية لنمو الأصوليات. لكن هذه الأصوليات لم تكن ناتجاً عرضياً أنتجته ظروف سياسية معينة، بقدر ما كانت أيضاً نتاج جهد ذاتي لشرائح اجتماعية معينة دأبت على التعبير عن نفسها، وعلى بث أفكارها من خلال آليات متعددة ومختلفة، حسب المدرسة الفكرية التي تنتمي إليها كل قوة.
وعند حديثنا عن أسباب وحيثيات بروز تلك القوى يجب ألا ننسى تأثير العوامل الخارجية؛ فالإرهاب المنظم الذي تمارسه كل من أميركا وإسرائيل، يُعدّ أول وأهم الأسباب في استشراء ثقافة العنف والتطرف، بل إن الحرب المزعومة التي تشنها أميركا على الإرهاب هي نفسها التي تغذي الإرهاب على مستوى العالم، وما الإرهاب الديني إلا جزءاً منه.
كما أن السياسة الأميركية المنحازة، والصمت العالمي على الجرائم التي تقترفها الأنظمة القمعية وفي مقدمتها إسرائيل أيضاً تستدعي بالضرورة ردات الفعل الغاضبة والمتشددة، والتي أدت إلى نشوء وتنامي الحركات الأصولية كرد فعل لمواجهة الطغيان العالمي.
كما لعبت الأنظمة العربية دوراً مهماً (بشكل مباشر حيناً، وغير مباشر أحياناً) في خلق الحركات الأصولية، حيث إن القمع والاستبداد السلطوي، وغياب الديمقراطية، واستشراء الفساد، والبطالة، وغياب الخطط الوطنية التي ترعى الشباب وغير ذلك أسباب كافية ساهمت في ازدهار ثقافة العنف، والتطرف.
بعض تلك القوى يعمل تحت جنح الليل وفي الزوايا المظلمة، ويتفنن في صناعة الجهل وبث ثقافة الموت والإرهاب، ويستغل الدين ويتخبأ تحت عباءته.. وقد أضرت هذه القوى بمشروع التحرر الوطني، وشوهت ثقافة الأمة، وأفسدت روحها وفكرها، وأضرت بسمعة دينها الحنيف.. يقابلها جماعات إسلامية أخرى، لا تؤمن بالعنف، وتدعو للوسطية والاعتدال، وتعمل بنهج سلمي مرن.. وقد آن الأوان للتمييز بينها، ولكشف ونزع القناع الزائف الذي تختفي خلفه كل الجماعات المتطرفة، ومما لا شك فيه أن هذه المهمة صعبة ومحفوفة بالمخاطر.
وإذا كانت ظاهرة العنف والتطرف المقترن بالفكر السلفي المتشدد وانتشار الأصوليات ظاهرة خطيرة، فإن الأخطر منها هو تجاهلها أو فهمها بشكل متشنج يخضع للأحكام المسبقة، والاكتفاء بانتقادها وتعداد مساوئها.. وهو نهج مرفوض لأنه محكوم بهاجس الإقصاء، ومدفوع بالرغبة الجامحة في التفتيش عن أخطاء الآخرين وتضخيمها، دون أن يرى في الآخر أي جانب إيجابي، وهو نهج يحاكم النوايا، وعادة ما يفترض الأسوأ، ويفتش عن الجانب السلبي على الدوام.. وهو نفس النهج الذي تستخدمه الحركات الأصولية نفسها في مهاجمة خصومها.
ومن الخطأ اللجوء لأسلوب التهجم والانتقاد بحيث تختلط الحقائق مع الأوهام والوقائع مع الصور المتخيلة، وفي النهاية تضيع الحقيقة وسط دخان كثيف من الاستنتاجات المغلوطة التي سيطلقها الطرفان، فمن السهل القول: إن فلان ظلامي ومضَلَّلْ.. ولكن مع ذلك لا بد من أن نعرف ما الذي يدفعه لأن يقطع آلاف الأميال ليصل إلى سوق شعبية في بلد ليس بلده، وليخوض معركة ليست معركته، ويفجر نفسه هناك! فالموت ليس خياراً بسيطاً يلجأ إليه الناس كل يوم.
ولا يجوز إلقاء تبعة العنف على عاتق الإسلاميين فقط، وتحميلهم المسئولية لوحدهم، لأن هذا يؤدي إلى إغفال العوامل الخارجية التي ساهمت في ولادة هذا العنف وهذا الفكر المتطرف، وبشكل خاص الإرهاب الدولي الذي تمارسه أميركا وإسرائيل، وتتسامح إزائه دول الغرب عامة، كما يبرئ الأنظمة والنخب الاقتصادية والسياسية من مسؤولية تصاعد العنف.
قد يكون بالفعل بعض هؤلاء الناس من جماعات التكفير والتفجير متعصبين، ذوي عقول متحجرة، ويتبعون أيديولوجية فاشية، ولكن هنالك من يوجههم بتخطيط مسبق، وهؤلاء من نمط مختلف عن أولئك الذين يسوقونهم للموت، ومختلفين عنهم في الأهداف والمنطلقات، ويفوقونهم ذكاءً وقسوة.
الفئة الأولى هم في أحسن الأحوال عقائديون متزمتون، أو مثاليون ذوو مشروع خيالي، أو مغفلون ضلّوا الطريق، أو فهموا النصوص الشرعية بطريقة غير صحيحة، أو متسرعون لتحقيق أهدافهم السياسية، أو مندفعون للحد الأقصى بردود أفعالهم على الظلم الموجه ضدهم، وهم في نفس الوقت مغامرون تراودهم أحلام النصر السريع، لكن قياداتهم شيء مختلف تماماً، إنهم أناس مدركون لأهدافهم ويعملون على تحقيقها بكل الأساليب وبشتى السبل دون أدنى اعتبار للقيم التي يتغنون بها ويضللون بها أتباعهم، إنهم يحملون مشروعاً يَعونَهُ جيداً ويعملون عليه ليل نهار.
مع التأكيد على حق الأحزاب الإسلامية بالعمل في مجال السياسة، وحقها في الوصول للسلطة، ولكن الخلاف على توظيفها للدين واحتكاره في تحقيق أهدافها السياسية، وتحويله لأداة يحاربون بها خصومهم..
خلاصة القول: إن قوى الإسلام السياسي كانت منذ بداياتها حركات سياسية اجتماعية تعاني القهر وتكابد الظلم وتبحث عن فرصتها في التعبير عن ذاتها، ولكن مع خنق صوتها، ومع إغلاق أبواب الأمل وانعدام فرص التغيير بالطرق السلمية، اكتملت دورة العنف السياسي لتهيمن على الحياة العامة، ولتأتي النتائج المدمرة على الجميع.
حماس تتجه لعدم إعلان هوية رئيس مكتبها السياسي الجديد
19 أكتوبر 2024