أثارت الكتابات التي صدرت عمّن يُطلق عليهم اسم "المؤرخون الجدد في إسرائيل" فيما يتعلّق بالنكبة الفلسطينية، صدمة في الشارع الصهيوني، لا سيما على المستوى السياسي والأكاديمي وحتى على الشارع العام والنخب السياسية.
فبعد عشرات السنين من الراحة التي شعر بها الاحتلال بسبب تبني روايته لأحداث النكبة في العديد من دول العالم، لا سيما تلك الدول التي ساهمت في صناعة النكبة الفلسطينية عام 1948، أصابها القلق في أعقاب الكتابات التي نشرها مؤرخون يهود والتي فنّدوا فيها الرواية الصهيونية وأكدوا صدق الرواية الفلسطينية لأحداث النكبة والمجازر التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني.
ويفيد المؤرخ، آفي شليم، وهو يهودي عراقي نشأ في الأراضي الفلسطينية وعاش معظم حياته في بريطانيا التي يحمل جنسيتها، بأنه يشعر بذنب مضاعف تجاه الفلسطينيين، قائلاً: "كإنجليزي؛ أشعر بالخجل من سجل بلدي المذهل في النفاق والخيانة، وذلك عند النظر في كل مسافة الزمن للوراء وصولاً لوعد بلفور عام 1917، وكـ"إسرائيلي"؛ فأنا مثقل بالشعور العميق بالذنب الثقيل بالنظر إلى الظلم والمعاناة التي سبّبها شعبي للفلسطينيين على مدى الستين سنة الماضية"، وفق قوله.
وأضاف شليم "المعزوفة الصهيونية التقليدية لأحداث 1948 معروفة جيداً، ومقبولة على نطاق واسع في الغرب، وهي تضع كل اللوم عن الحرب ونتائجها على الجانب العربي، وهذه هي الرواية الوطنية الرسمية للتاريخ، وعلى هذا النحو، هذه رواية تبسيطية انتقائية وتخدم المصالح الذاتية، وهي في جوهرها دعاية المنتصرين، فهي تصور المنتصرين كضحايا، كما أنها تلقي اللوم على الضحايا الحقيقيين الفلسطينيين على سوء حظهم"، كما قال.
وأوضح رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة تل أبيب، أمل جمال، أن مصطلح "المؤرخين الإسرائيليين الجدد" يطلق على مجموعة من المؤرخين الإسرائيليين الذين طرحوا وجهات نظر تدعو إلى إعادة دراسة موضوع النكبة والصراع الإسرائيلي - العربي مجدداً وفق معايير ومقاييس علمية وأكاديمية، ممّا يعني زعزعة وتحطيم المسلّمات التاريخية التي اعتمدتها الرواية الإسرائيلية لعقود طويلة فيما يتعلق بأحداث النكبة عام 1948.
وأضاف جمال، أن تأثير هؤلاء المؤرخين كان كبيراً على الخطاب الفلسطيني، لأنهم وصلوا إلى الكثير من المعلومات عن النكبة، وأوصلوا هذه المعلومات التي كان معبر عنها من خلال الرواية الإسرائيلية، ودعموا الخطاب الفلسطيني بمعلومات كانت تنقصه وتعكس السياسات الإسرائيلية حول التطهير العرقي في فترة النكبة.
وفي المقابل، أشار جمال إلى أن تأثير هؤلاء على الخطاب الإسرائيلي كان شبه معدومٍ، حيث لم ينتشر خطاب هؤلاء المؤرخين على المستوى الجماهيري الإسرائيلي، وهذا كان واضحاً حيث عملت كل المؤسسة الإسرائيلية ضده وقلّلت من شأنه، في حين كان له تأثير كبير على المستوى الأكاديمي؛ فلا يمكن للمؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية أن تتجاوز كم المعلومات التي طرحها هؤلاء المؤرخون الذين كان لهم تأثير أيضاً على جميع الأكاديميين المؤرخين في الدولة العبرية.
وأوضح الخبير في الشؤون الصهيونية، أن هذا الخطاب الجديد أظهر وجود شرخ حول النكبة بين الخطاب الأكاديمي والجماهيري، وأظهر وجود فرق كبير بين الوعي الجماهيري العام الإسرائيلي حول رواية النكبة والمعلومات المتوفرة في الخطاب الأكاديمي، وهذا ينبع من عمل المؤسسة الإسرائيلية الأمنية والسياسية والتربوية التي عملت على الحد من تأثير أشخاص من قبيل بني موريس وإيلان بابيه وآفي شليم على الحيز العام، وفق تصريحاته.
ورأى أن هؤلاء المؤرخين لم يتبنوا الرواية الفلسطينية للنكبة، وإنما كانوا مؤرخين يعملون في المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية وبعد مرور أكثر من 30 سنة على أحداث عام 1948، تم الكشف عن مستندات جديدة كانت معرّضة للتعتيم طوال الفترة السابقة حسب القانون الإسرائيلي، وتوفرت نتيجة لذلك الكثير من المعلومات .
وكشف أمل جمال الذي يرأس مركزاً إعلامياً داخل الخط الأخضر، عن أن المؤسسة الإسرائيلية الرسمية سواء كانت السياسية أو الأمنية لم تكن راضية عن عمل هؤلاء المؤرخين، بل عملت ضدهم ودخلت في مواجهة معهم بدعم من قبل بعض المؤرخين المحافظين المؤسساتيين الذين أكدوا على مقولاتهم السابقة في مواجهة المؤرخين الجدد، وشاركهم في ذلك الإعلام الإسرائيلي الذي عتمّ على هؤلاء المؤرخين وروايتهم للنكبة.
وأضاف أن المؤسسة التربوية رفضت إدراج المعلومات الجديدة ضمن مناهج التدريس رغم محاولة بعض الشخصيات إدخال هذه المعلومات التي تعترف بالنكبة وأحداثها لكنهم منعوا من قبل وزارة التعليم، وبالتالي بقيت عملية التنشئة والتثقيف محافظة وتستعمل المعلومات المألوفة التي توفرها المؤسسة الإسرائيلية الرسمية، وبالتالي كان هناك عملية صد للمعلومات التي وفرها المؤرخون الجدد ومواجهتها بمعلومات بديلة تقلل من شأنها وتمنع تأثيرها، والادعاء أنها غير صحيحة وليست دقيقة ومعلومات روائية وقصصية أكثر منها معلومات بحثية، كما كان هناك مهاجمة للمنهج الدراسي الذي استعمله المؤرخون الجدد، وفق قوله.
وحول مدى قدرة المؤسسة الإسرائيلية على صد المعلومات التي نشرها المؤرخون الجدد، لفت مدرس العلوم السياسة في جامعة تل أبيب، إلى أن هناك منافسة داخل الحيز العام الإسرائيلي حول موضوع النكبة، ولا يمكن مواجهة هذه المعلومات إلى ما لا نهاية، مضيفاً "باعتقادي مع الوقت سيكون هناك تسلل لهذه المعلومات داخل قطاعات المجتمع الإسرائيلي".
وذكر جمال، أن الأغلبية الساحقة من الأكاديميين العرب في الداخل يستعملون معلومات وفرها المؤرخون الجدد، وأصبحوا جزءاً من المواجهة من خلال الترويج لهذه المعلومات التي تؤكد أن الرواية الفلسطينية للنكبة هي الصحيحة وتفكيك الرواية الصهيونية والتوضيح بأنها ليست رواية بطولة وتحرير وإنما رواية تطهير عرقي ورواية استعمار
حرب غزة ودولة غزة: النكبة الفلسطينية الثالثة
14 سبتمبر 2024