إن أخطر وأصعب الأنظمة الدكتاتورية تلك الأنظمة الثيوقراطية لأنها لا تستند فى شرعيتها إلى محددات منطقية بشرية بل إلى العقائدى المطلق الغير قابل للتشكيك أو حتى للنقاش؛ تلك الأنظمة لا يمكنها من ذاتها أن تحدث أى إصلاح لأنها لا تعترف بالأصل بأنها تُخطئ. هذا النوع من الأنظمة فى العادة لا يمثل خطراً على شعبه فحسب بل على محيطه كاملا لأنه يملك نزعة فطرية بالتوسع والتمدد الجغرافى خارج حدوده السياسية وبالقوة العسكرية إدراكاً منه إفتقاده لأى قوة فكرية ناعمة بمقدورها إشباع رغبته للتوسع والسيطرة وهو يحتاج لوكزه ليدرك أن هالته قد سقطت وأنه تنطبق عليه قوانين الطبيعة وأنه يعتريه ما يعترى البشر وأن شرعية الحكم السماوي يمنحها الله للرسل فقط وأن الأنظمة والحكام الثيوقراطيين ما هم إلا نموذج مسخ لدجالين استغلوا الدين ولعنة وعقاب من السماء لكل من حكموهم وساروا فى ركبهم، ولكن هذه الوكزة تأتى دائما فى الساعة الاخيرة من عمر تلك الأنظمة .
لقد مرت أوروبا بتجربة الأنظمة الثيوقراطية عندما تحالف ملوك الأسر الحاكمة مع قساوسة الكنائس ليمنحوهم شرعية سماوية لا يعلوها أى شرعية أخرى، وأديرت ممالك عدة بتلك الأنظمة لقرون عُرفت بالقرون الوسطى وهى تسمية أصبحت تاريخياً مرادفاً لعصور الظلام والحروب الطاحنة التوسعية والظلم والتخلف والانحطاط فى التاريخ والثقافة الأوروبية والعالمية، ولم تستفق تلك الأنظمة أو تحاول الاصلاح من الداخل إلا عندما خرج الشعب وثار عليها وأحرق باستيلها وقصورها وكنائسها وأسقط وأعدم ملوكها وكهنتها وفرض نظام حكمه الذى يستمد شرعيته من رضا الشعب على نجاحه فى إدارة شؤونه بوثائق تاريخية كالماجنا كارتا وفتح الطريق واسعا لعصر النهضة الأوروبى .
التجربة الامبراطورية اليابانية نموذج آخر لنظم الحكم الثيوقراطية حيث مثلت العائلة الإمبراطورية وعلى رأسها الامبراطور صلة الوصل بين آلهة الشمس والأمة اليابانية لقرون عدة استمد نظام الحكم الامبراطورى شرعيته فى الحكم المطلق من هذا الادعاء الذى آمن به جل اليابانيين وخاضوا تحت لوائه حروبهم الاستعمارية فى المحيط الهادى وبحر اليابان وارتكبوا أفظع جرائم الحرب فى حق جيرانهم الأسيويين كالصينيين والكوريين وتحت لوائه وبمباركته فجر الكاميكاز الانتحاريين بطائراتهم سفن الأسطول الأمريكى أواخر الحرب العالمية الثانية، لكن النهاية كانت مأساوية فاليابان خسرت حروبها تلك وفقدت بنهاية الحرب العالمية الثانية ما يزيد عن أربعة مليون يابانى بعدما ضربت الولايات المتحدة نظامها الامبراطوري بقنبلتين ذريتين أحالتا هيروشيما ونكازاكى إلى أثر بعد عين؛ وجعلت نظامها الامبراطوري بزعامة هيرو هيتوا يستفيق لأول مرة منذ قرون ويدرك بأنه لا يصلح وسيط بين الأرض والسماء؛ ويعلن استسلام اليابان ليتحول النظام الامبراطوري الثيوقراطى لاحقاً إلى نظام ملكى دستورى يستمد شرعيته من نجاحاته فى إدارة شؤون البلاد ويفتح الطريق واسعاً لنهضة اليابان الجديدة كعملاق اقتصادى يغزو العالم بعلمه واختراعاته، لكن التفرد المحير فى الحالة اليابانية هو فى السطوة والمكانة الروحية للعائلة الامبراطورية وللامبراطور الراحل هيرو هيتو على الأمة اليابانية والتى لم تهزها الهزيمة والاستسلام أمام الحلفاء لدرجة أن خطاب الرجل العاطفى لشعبه بعد أسبوع من إعلانه الاستسلام كان كفيلاً ليس بأن يلقى الجيش الأحمر سلاحه بل بأن يرحب بالغزاة بالورود والقبلات فى مشهد حير كل علماء النفس والاجتماع السياسى .
تجربة الحركة الصهيونية مثال آخر قائم لدولة دينية ونظام هو فى الأساس نظام ثيوقراطى ينفذ فيه الساسة إرادة الحاخامات اليهود الجدد بانفاذ وعد الرب لشعب الله المختار عبر حركة سياسية أخذت على عاتقها إنشاء وطن قومى لليهود فى فلسطين تبنياً لأراء أولئك الحاخامات الجدد الذين يخالفون أسس عقائدية راسخة فى الديانة اليهودية تحرم عليهم دخول الأرض المقدسة أو إقامة الهيكل والصلاة فيه قبل نزول المسيح المخلص، لكن أولئك الحاخامات استطاعوا عبر الحركة الصهيونية مدعمين بتحالفات أيديولوجية وسياسية دولية اغتصاب أرض فلسطين وإقامة دولتهم كنواة صلبة لأرض اسرائيل التوراتية ما بين النيل والفرات، تلك دولة أقيمت بعكس حركة التاريخ فى المنطقة على أنقاض شعب آخر تجذر وتواصل مع هذه الأرض لما يزيد عن 3000عام، وتسيطر اسرائيل الثيوقراطية بالفطرة اليوم على شعب آخر شردته وقتلته ونهبت أرضه وممتلكاته وترفض اقتسام تلك الأرض معه علاوة على احتلالها لأراضى دول أخرى مجاورة بنزعة توسعية عقائدية مصداقا لتعاليم توراتية لحدود دولة اليهود ما بين نهر النيل والفرات؛ ورغم ذلك تدعى اسرائيل خلاف الواقع أنها واحة الديمقراطية فى المنطقة. لكن فى المقابل يدرك العديد من صانعى القرار فى اسرائيل اليوم وبعد قرابة السبعين عام أنهم أمام خطر وجودى مزدوج فى بقاء الوضع القائم على ما هو عليه يتمثل أوله فى الخطر الديمغرافى فى بقاء الفلسطينيين ضمن الحدود السياسية للدولة وما قد يخلفه استمرار وضع كهذا على الحلم الصهيونى العقائدى الشاذ بالنقاء الإثنى للدولة، أما الخطر الثانى فيتمثل فى المخاطر الأمنية المترتبة على منح الفلسطينيين دولة ذات سيادة فى الضفة والقطاع على مستقبل دولتهم أضف الى ذلك أن معظم الارث الثقافى المزعوم للرواية التاريخية لدولة اليهودية سيقع فى قلب تلك الدولة الفلسطينية، وهو ما سيفقد الرواية التاريخية الصهيونية المزعومة الكثير من مقوماتها الأيديولوجية .
وفى المقابل تدرك شريحة كبيرة من المفكرين الاسرائيليين خطراً خفياً آخر اذا ما استمر الوضع القائم على ما هو عليه، فازدياد حدة الصراع بجانبه العقائدى الأصيل لا محال سوف تزيد من يمينية المجتمع وتطرفه وهو ما سيسقط ورقة التوت عن نظام الحكم فى اسرائيل ليظهر وجهه الحقيقى باعتباره نظام حكم ثيوقراطى يديره حفنة من رجال الدين واليمينيين المتشددين المتطرفين وهو ما سيقلص هامش الديمقراطية اليهودية لسكان الدولة اليهودية لصالح المتدينين منهم، ويحيل الدولة شىء فشيئ إلى دولة فاشية دينية بكل ما تعنى الكلمة من معنى ويزكى صراعات سياسية واجتماعية وعقائدية داخلية لن تكون بمقدور فسيفساء المجمع الصهيونى اليهودى الهش الصمود أمامها طويلاً .