بعد مرور عامين على استشهاد الشاب ليث الخالدي في مدينة رام الله، وردتنا رسالة من زميلة الشهيد بالمدرسة امل ابو ريده، وهي الان طالبة في كلية ابن سينا حيث كان هناك مقعد آخر لليث.. كتبت امل قصة استشهاد ليث.. روت امنياته واحلامه وحبه لفلسطين.. لحظة غضبه على حرق عائلة الدوابشة ولحظة وداعه الاخير... قصة ليث...
كانت أمه الممرضة سمر تصطحبه معها رضيعا من بيتها في رام الله الى عملها في القدس، كانت تعبر حواجز الاحتلال في الصيف وفي الشتاء وهي تحتضنه بين يديها، لم يكبر ليث بسهولة .. ولكنه ايضا لم يكبر كثيرا، الآن هو ابن 16 ربيعا، ولدٌ فلسطينيٌ اسمر البشرة عيناه بنيتان، يدعى ليث الخالدي، منذ تفتحت عيناه على هذه الدنيا وهو لاجئٌ في وطنه ويقبع في مخيم يذهب اليه نزولاً، مخيم الجلزون.
كان حلمه أن يصبح يوماً ما محامياً، يستطيع ان يدافع عن قضيته ووطنه فلسطين، وكان يعشق الحياة ومتشبثاً بها فهو ايضاً يسعى جاهداً ان يكون عازف عود، وقد كان بشوشاً حيي المبسم وروحه مفعمةٌ بالحيوية تتسامى وتطير بالسماء، وتمضي فوق تراب الوطن دون أن يمنعها شيء.
وفي يوم الجمعة في الواحد والثلاثين من تموز، استيقظ ليث مع عائلته، لتناول طعام الإفطار سويا كالمعتاد، وإذا بخبر فاجع يعم أرجاء فلسطين، حرق الطفل علي الرضيع، على أيدي القردة الخاسئين، نعم حرق الرضيع وقهر الجميع حتى ليث ابن الستة عشر ربيع، وحينها خاطب أمه قائلاً : " ليش حرقوه ؟! طفل صغير؟! ليش !! "
سقطت دمعتان من عيني ليث لتعلن عن وفاة طفل بريء بداخله ومولد رجل شجاع، وترددت على مسامعهم أغنية (ودعتك يما ومصعب رحيلك ) كانت من تحت لمسات ليث.
ذهب الليث ووالده وأخوه لصلاة الجمعة، يبتغون رضوان الرحمن، وبعد انتهاء الصلاة عادوا الى البيت، كان الأسى يملأ قلبه والكره والحقد على القردة الخنازير قد بلغ ذروته، فتح حسابه على مواقع التواصل الاجتماعي، ونشر صورة لحرق علي الدوابشة، تتداول على ذهنه الأفكار، فتارة تنهال على رأسه أفكار كالأسهم، وتارة تأتي فكرة ان يقف مكتوف الأيدي لأنه لن يغير شيئاً، وتارة أخرى تقبضه الشهامة بقبضتها الكبرى ويميل لها، فماذا بمقدوره ان يفعل ! كل يوم يرى العدو يستحيي النساء، ويقتل الأطفال ويهين الشيوخ، أدرك ليث هنا أن الساعة قد دقت ليأخذ بثأر كل فلسطيني، ولم يتوقف ذهنه عن التخيل بالهبوب كالقبضة المتحدة، هنا هب هو وأصدقائه باتجاه حاجز عطارة شمال رام الله، خط حلمه ان يسكون اسماً في لائحة الشهداء في عليين
خرج من البيت غاضباً، وردد كلماته : " مش خايف من الرصاصة تعالوا طخوني شهيد بالجنة خلي الشباب يزفوني "، " بدنا نحرقهم زي ما حرقوا الرضيع " كانت أخر جملة تفوه بها قبل ان تبدأ الحكايات تسبح في فكره كأي مقاوم، في كل حجر حكاية وفي قنابلنا الحجرية سوف نطرد اليهود، فالحجارة بالنسبة للمقاومين مجد وعزة، ففي الحجر الأول صرخة أم قتل رضيعها أمام ناظريها، وفي الثاني صوت أنين تراب الوطن، كأنما أصبح ثكلا ومنهكا من كثرة الدماء، وآخر حجر رماه بعدما صدع بداخله صوت بكاء علي وأمه وأبيه وأخيه احمدا، " لبيك يا الله ثائرا للرضيع علي".
ثوان معدودات، واذ صوت الرصاص، أطلق جندي رصاصته الغادرة، استقبلها ليث بصدر مفتوح وبكل بسالة، تلك الرصاصة كأنها لم تبصر عيناه لتتراجع وتعتذر، قصفت الأقحوان الغض في صدره، واعتجنت داخل جسده وبخت سمومها .
وقيل انها رصاصة الفراشة، أي تسمية هذه التي تغتال الغد الجميل باسم الفراشة !!! خر ساقطاً ودماؤه من حوله تشهد على جبن العدو وخوفه، تشبعت الأرض بها حتى ارتوت ومنه استمدت الأزهار رحيقا لها، وتفتحت حقول خضراء على ذاك الجسد المقدام.
وبين وقع الرصاص، واختناق السماء بدخان القنابل، تخبط الجميع والكل ينادي أن يحضر الإسعاف ها هنا فوراً، فرصاصة غدر أودت بابن الخالدي أرضاً .
تسارع أصدقاؤه لحمله، وادخلوه سيارة الإسعاف، وفي طريقهم إلى مجمع رام الله الطبي أسدل ناظريه على اسوارة كان يرتديها، وهمس بصوت تمازج فيه الفرح والدمع "اعطوا إسوارتي لتالا" اصطدم الماضي الجميل تحت ظل عائلته بالقدر الذي نسج له، فقد اختار الطريق للفردوس، ومع ذلك نشأ من الاصطدام تفتح ورود الماضي أمامه كأنها حيته كلها، لم تكن إلا ثوان مختصرات، ونشب عن رحيقها تخيلات ود لو انه مر بأنامله على كتف أمه وواساها بنفسه، ويبتسم في وجه شقيقته ويقول لها : " لا تقلقي ما زلت السند والمتكأ عليه "، والظهر الصلب لأخيه وأبيه.
وبين ثنايا كتاب "ذائقة الموت"، التي كانت تقرؤه أمه، وشجن أحداث التغريبة الفلسطينية التي تمازجت في ذهن تالا شقيقته، جاءت مكالمةٌ لأخ الشهيد مفادها : أن ليث قد أصيب أنكرت الأم فور سماعها قائلة :" لا لا مستحيل، مين ليث ؟؟ شو دخلك ليحكولك ! "، الوالد متفهماً فالخبر لا يحتمل العواطف:" ليث ابنك".
لم يخطر ببال أحد أن إصابته عقيمةٌ الى هذا الحد، دخلت أمه مسرعة الى غرفة العمليات، عندما رأت الطاقم الطبي قالت : "هو ابني إصابته بالكبد؟!".
طال انتظارهم أمام غرفة العمليات ساعات وساعات، انتصف الليل وكان ليث قد نقل الى غرفة العناية الحثيثة، لم تكن سمر متخيلة يوماً أنها في غمرة عملها كممرضة تسعف مصاباً هنا وآخر هناك، أن ترى بين الوجوه وجه ابنها مصاباً برصاصة صهيونية قاتلة، لم تستطع ان تفعل شيئاً سوى أن تعيش الألم الأكبر، وابنها يلفظ الأنفاس الأخيرة أمامها.
صرخ صوت في جوف الصمت قائلاً : "لا اله إلا الله والشهيد حبيب الله" هلعت الأم نحو أصواتهم فإذا الليث هو الشهيد؛ وأخاه يحتضنه قائلاً : "والله بحبك يا أخوي، بتعرف قديش أنت بتجنن، لا تخاف على أمي، أكيد أنت انت رح تدخلنا الجنة"، وأبوه بدمعة حالمة ان تعود له الحياة قائلاً : "يا بابا اصحي يا بابا عيش"، دقت الساعة بحلتها السوداء أبواب عائلة الخالدي، لتعلن ليثاً شهيداً.
بعد مرور ليلة صعبة، أصرت أم الشهيد أن يعود ليث الى غرفته ويتوسد سريره الوردي الذي تركه، ليعود إليه نائماً ممتداً ضاحكاً، وقد وشم على جسده الأبيض والأسود يتقاطعان ليعلنا كوفية وثورة، كانت أمه تلقي نظرة على جسده فيتوقف قلبها، فتعيد النظر ثانيةً ؛ لعل خطأً ما يعلن الحياة فيه من جديد، احتضنته وأخته في إغفاءة آخيرة، وكأن العناق الموصول ما بين جسديهما لغة حب وعشق للأرض، آخر مرة برفقة أحبابه المكلومين من الوريد الى الوريد، قطرة دافئة من دمعها تسقط على خد الشهيد، مسحتها بحنان يائس.
لم تقو أقدام أمه على حمل جسدها المثقل بويلات الوداع الأخير، الذي ترتسم فيه كل تخيلات الحالمين والذاهبين الى العرس؛ إنهم الرجال الذين يحملون نعش الشهيد، الملتف بأكاليل من الزهور الملونة يهللون ويكبرون، وأصوات النساء أصدعت المكان بالزغاريد، وبأيديهن نثرن الزهور في كل مكان، كل معايير الصورة والإنسانية بنصوصها البليغة تسقط، عندما نادت أم الشهيد "ليث .. ليث .. تعال يما" وأخته صرخت "وجعتلي قلبي يا ليث .. مش رح يرجع" لم تغمض عينيها في تلك اللحظة، التي يسجد فيها الدعاء فوق نعش الشهيد، حينما كانت الملائكة تستعد لاحتساء دموعها الثمينة، دموعها الدافئة التي تنفلت من عينيها بغزارة كدموع الأرض فرحا، حين تستقبل أحباءها الصغار والكبار، والطيور ترفرف فوق النعش مسابقة الموكب نحو المقبرة، نعم وصلوا وبدا وكأنما القبر يضيء، توقفت السماء عن البكاء، وتفرقت الغيوم، لتنير الشمس بضييها وردة الياسمين التي زرعت فوق بيت الشهيد الجديد.
يا ليث يا أجمل قصة سمعتها في حياتي، ستظل الأسطورة التي تورق في أوردتنا وتزهو على ضفاف أوجاعنا، ستظل زهرة ياسمين تعانق خيوط الشمس الدافئة، ولن ننسى هبتك على أنين طفل كالأسد، لتثبت أن شباب الحجارة هم الأسود.. أمك، أبيك،إخوتك، سماء المخيم، هلالها المطل على أرضه،جدرانه المرسومة بالألم، كل ما في الوجود سيشتاقك، فأشعة الشمس، ولون بشرتك القمحي، كان يرتسم بلون الحرية، لتتغنى بانتفاضة جديدة.
"الرحمة لكل شهدائنا، لقلوب أمهاتنا، وللتعب في أفئدة أبائنا".