اهتزاز المشهد السياسي في إسرائيل

د. عبد المجيد سويلم.jpg
حجم الخط

استفحلت أزمة «الفساد» في إسرائيل وانتقلت في الواقع من دائرة صحة التهم والشبهات من عدمها إلى دائرة استقالة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو والذهاب إلى انتخابات مبكرة أو إصراره على عدم تقديم الاستقالة والتمترس في موقع رئاسة الوزراء حتى ولو «خربت مالطا»، وحتى لو أن حزب الليكود نفسه ضغط باتجاه الاستقالة.
لدى بنيامين نتنياهو هوامش ما زالت واسعة للمناورة ولكنها ضاقت كثيراً عما كانت عليه قبل عدة أسابيع فقط.
حسب الفهم المتوفر حتى الآن لا يوجد سبب «قانوني» ملزم لرئيس حكومة الاحتلال بالاستقالة بسبب خضوعه للتحقيق أو حتى توجيهه التهم، ذلك أن الأمر الذي جرت عليه الأعراف والتقاليد الإسرائيلية بهذه الشؤون كانت تقضي بالاستقالة لأسباب معنوية وسياسية وليس لأسباب قانونية صرفة.
ومع أن هذه المسألة بالذات فيها بعض «اللبس والغموض» وليست قاطعة ومانعة في «حكمها» على الحالة القائمة الآن في إسرائيل، إلاّ أن رئيس حكومة الاحتلال هو أبعد شخص في إسرائيل كلها يمكن له الامتثال إلى تلك الأعراف والتقاليد، وربما يكون الشخص الوحيد من كامل النخبة الإسرائيلية الذي لديه كل الاستعداد للتمسك بمنصبه حتى الثواني الأخيرة من صدور حكم بالإدانة.
في مطلق الأحوال لن يتراجع نتنياهو ولن يحاول اختصار المسافات والزمن إن لم نقل إن العكس هو الصحيح، بحيث أنه سيخوض «المعركة» حتى الرمق الأخير ولن يأبه  ابدا لا بموقف «الحلفاء» ولا بمواقف المعارضة وقد لا يأبه حتى بموقف الجمهور إذا شعر أن «معجزة» ما قد تحدث في اللحظة الأخيرة.
على الأغلب فإن تمترس نتنياهو سيكون مغلفاً بالكثير من الذرائع والحجج التي من شأنها إعادة تكتيل وتجنيد كل من يمكن تجنيده من أحزاب الائتلاف الحاكم، إضافة إلى تخويف الجمهور اليميني في إسرائيل من عواقب خسارة اليمين المتطرف للحكم على «أمن» إسرائيل وعلى سيطرتها الكاملة على كامل الأرض الفلسطينية.
وعلى الأغلب، أيضاً، فإن نتنياهو «سيرعب» الجمهور الإسرائيلي بتبعات سقوط حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل من «إرهاب» ومن قيام «دولة» فلسطينية في اليوم التالي لهذا السقوط!
كما سيناور نتنياهو كثيراً وسيلعب على وتر الأخطار التي ستواجهها إسرائيل جراء سقوط الحكومة الحالية في مجال السياسة الخارجية، وخصوصاً العلاقة مع إدارة ترامب والتغيرات الجوهرية التي ستطرأ على المشهد الإقليمي، بحيث يتحول الحل الإقليمي من حل لتصفية حقوق الشعب الفلسطيني (كما يتوهم نتنياهو ويوهم حلفاءه) إلى حل يضع حقوق هذا الشعب في صلب الحل الإقليمي نفسه.
إذن الهوامش وإن ضاقت ما زالت واسعة، والاحتياطات الاستراتيجية الكامنة عند نتنياهو ما زالت لم تخرج كلها إلى حلبة الصراع، والتهديدات التي سيختلقها ستكون أكبر من أن يتجاهلها الحلفاء والجمهور على حد سواء.
لكن وعلى الجهة المقابلة فإن المعركة قد بدأت فعلاً، وهي معركة أصبحت محددة وملموسة بالوسائل والآليات والأهداف على حد سواء.
وإذا ما بدأنا بأطراف الائتلاف نفسه يمكن تسجيل ثلاثة مَعَالِم رئيسية:
المَعْلَم الأول: سيتمسك كل طرف من أطراف هذا الائتلاف بالحكومة ورئيس الحكومة طالما أن المكاسب من بقاء هذه الأطراف هي أكبر من الخسارات التي يمكن أن تترتب على انفراطها.
المَعْلَم الثاني: كل طرف من أطراف الائتلاف عينه على الميراث وليس التركة.
عند درجة مُحدَّدة من تسارع الآليات القانونية للبحث في التهم الموجهة لرئيس حكومة الاحتلال سيبدأ كل طرف بإعداد نفسه للميراث والحصص والدور بحيث يتحمل نتنياهو ومن يقف معه أعباء التركة ويكاد ينطبق الأمر نفسه على حزب الليكود.
وأما المَعْلَم الثالث فهو أن التمسك بنتنياهو ينطوي على مغامرة سياسية كبيرة إذا ما انتهت التطورات إلى الانتخابات المبكرة، ذلك أن الجمهور الإسرائيلي حسّاس إلى أبعد الحدود للفساد السياسي الذي يضرب عميقاً في المجتمع السياسي في إسرائيل.
إذن هناك ثمن لتماسك الائتلاف، وهناك ثمن أكبر لهذا التماسك إذا طال أمده، وهناك خسارات كبيرة إذا لم تعرف أطراف الائتلاف اللحظة السياسية المناسبة بالضبط للتخلي عن رئيس حكومة الاحتلال.
المعركة في ضوء ذلك محتدمة وكبيرة وموازين القوى بين أطرافها متحركة، وفيها من المستور أكبر بكثير مما هو واضح ومكشوف ومعروف.
والمعركة نفسها تنطوي على الكثير من الضلال والتضليل، فقد تسترت أطراف الائتلاف على نتنياهو طوال سنين بكاملها، وهو تستر على كل أو بعض هؤلاء للحفاظ على الحكومة، والحفاظ على الحكومة الذي ترعرع في كنفها هذا القدْر الذي تم الكشف عنه أو اكتشافه من الفساد لم يكن ليظهر على هذه الشاكلة لولا أن كل الأطراف المشاركة في الائتلاف «تخوض» معركة الهروب الكبير من الواقع الإسرائيلي والذي تمثله وتكثفه الحقيقة الفلسطينية.
الحقيقة السياسية لفلسطين هي الداء وهي الدواء، واليمين الإسرائيلي يمثل دور المصاب بمرض عُضال ولا يريد لأحد أن يعرف عنه أو يساهم في الشفاء منه أملاً في الجسد اليميني الذي ما زال قادراً على الهروب من مواجهة الحقيقة.
لقد كذبت إسرائيل على العالم وعلى نفسها في السنوات الأخيرة أكثر مما كذبته خلال وطوال نصف قرن كامل من وجودها. واليمين في إسرائيل يعتقد أن ما ينقص الرؤية هو فقط توفر من يصدقها والعمل يجري على قدمٍ وساق وفق هذا الاعتقاد.
أما وأن حبل الكذب قصير، فهذا ما لا يجد رواجاً بعد في إسرائيل كلها مع الأسف، لكن الحقيقة الفلسطينية تشق طريقها بقوة وعزمٍ وثبات، وحين تصل الأمور إلى ما يجب أن تصل إليه ستنهار الرواية بكل أركانها دفعة واحدة.
نحن اليوم على أبواب نهاية رجل مراوغ وفي المرحلة القريبة القادمة سندخل عهداً جديداً عنوانه «نهاية رواية طال الكذب بشأنها».
والفساد في إسرائيل ليس إلاّ أحد الآثار الجانبية للرواية المزعومة.