الصورة وثيقة دامغة وموثوقة، أو هكذا يُفترض. اكتسبت هذه الموثوقية بشكل خاص إبان التصوير بتقنية المماثَلة (analog) بتعريض الفلم المرهف الحسّ للضوء، فيحفر في طبقة أملاح هاليدات الفضة بأمانة تُظَهّرُ لاحقاً صورة يصعب العبث بها، لان العبث هنا مجازفة تترك آثاراً فاضحة.
غير أن الأمر مغاير في الصور الرقمية، فهي مصفوفة مربعات تسمى "بيكسلز". pixels خصائص كل بيكسل محدد بثلاثة قيم رقمية تمثل (الأبعاد، العمق، اللون) وكل قيمة من هذه القيم تحتمل16.7 مليون احتمالاً. لست هنا في وارد الدخول الى تقنية البيكسل وكيفية عملها. لكن ما يراد قوله هنا أن الفوتوشوب مذهلٌ في هذا الأمر يجعل من القرود غزلاناً وبالعكس. صُمم الفوتوشوب ليعبث بقيم “البيكسلز” وبشدة، بحيث يمكن لكافة الأشكال الممكنة، ما كان منها وما يكون وما سيكون لاحقاً احتمالاً قائماً في التظهير حسب نظرية “التجلي المعلوماتي”، لتعبر عن نفسها في مصفوفة المربعات هذه. وهنا مكمن قوته وخطورته، واشكالية مصداقية مخرجاته في ذات الوقت.
تقفز هنا مباشرة ما يقول ماركوس اوريليوس “ كل ما تسمعه هو وجهة نظر ليس حقيقة، وكل ما تشاهده هو منظور ليس واقعاً”. بمعنى آخر، أو ما هو حقيقي وواقع؛ أن كل ما نسمع هو محض تعبير عن وجهة نظر، مهما بدا مقنعاً وجذاباً، يبقى رأياً ووجهة نظر مهما علا شأنه. كما أن كل ما نشاهده لا يتعدى كونه منظور، منظور بزاوية معينة يؤَول بعين غير محايدة ومعرفه قياس مسبقة. وبارعة أذهاننا نحن البشريون في ملء الفراغات البصرية فيما بين الأشياء غير المكتملة، لتبدو في شكل ما يمكن القياس عليه ومقاربته بما نعرف قبلاً، لهذا نحن بارعون في التشبيه، فالبصر أكثر حواسنا خداعاً، وأكثرها قدرة على الترميم الكمّي، وهذا نظاق عمل نظرية الجشتالت. هل هي ضرورية هذه المقدمة لقول ما نريد! ليس بالضرورة.
من المؤكد أن صورة واحدة على الأقل من صور عملية مستوطنة مطبخ حلميش، مسرح العملية المفترض التي نشرت بتاريخ تموز الماضي وفي اليوم الذي تلاه قد زارت برنامج الفوتوشوب أو إحدى مشتقاته. وعندما تحل أي صورة ضيفة على الفوتوشوب تُستدعى لغاية ما، بدوافع واضحة لمن طلب الاستدعاء. ومما يتضح في صور “مطبخ حلميش” نورد بعض الملاحظات السريعة بالمقاربة بين الصورتين الرئيسيتين التي حرص الإعلام الإسرائيلي على شيوعهما بعد العملية مباشرة في مختلف وسائل الإعلام العالمية. بعد إخضاع الصور لجولة واحدة من التحليل البصري نرصد بعض التلاعب في الصورة الثانية التي يظهر فيها منفذ العملية عمر العبد ممداً ومقيداً على أرضية المطبخ الدامية:
أولاً- هناك أثر لعملية قص أسفل وأعلى الرجل اليسرى يدل عليه “البكسلز” المكسرة وغير المتسقة بتدرجها اللوني في تلك المنطقة.
ثانياً- أبعاد الجهة اليمنى لحذاء عمر العبد ملتقطة بعدسة واسعة ليست ذات العدسة التي التقطت المطبخ بالمقارنة مع حافة الطاولة، أو ليست من نفس المنظور على الأقل.
ثالثاً - أسفل حافة الطاولة الأمامية فيها آثار تلاعب وقص ودمج للبكسلز مُقحم بشكل ظاهر وواضح.
رابعاً - ظل الجسم المنبطح أسفل الرجل اليمنى على الأرض غير متسق بشكل طبيعي.
خامساً - هناك مسح لبعض آثار الدماء على الأرض بشكل شبه هندسي عند أعلى الرأس.
سادساً - يفترض أن يكون تجمع الدم مكان الاصابة في منطقة الظهر والصدر قد تجمعت بشكل واضح على الأرض على شكل بقعة، وهذا ما لا يظهر مطلقاً في الصورة، بل على العكس.
سابعاً- الصورة الأولى التي نشرت في اليوم الأول للمطبخ خالياً من أي شخوص تظهر ارضيته على المدخل وكأنها رشت بالدماء رشاً دون أن تظهر على الأرضية أي آثار احذية أو دعسات أرجل أو آثار اقتياد وسحب أجساد لداخل المطبخ أو خارجه.
هذا يقول: بأن الصورة أستدعيت الى الفوتوشوب لأسباب غير جمالية أو تقنية، وإنما لأسباب "فوتوشينية" ذاتية ولمآرب يعقوبية. فيها تركيب وتهذيب وتشذيب، وهي ليست واقعة واحدة وليست حقيقة واحدة وليست من منظور واحد، وتم حشوها بما افتقد الأصل. هذه قصة مصورة يعتريها الريب. وظيفة الإعلام الحديث تتمحور حول أدرمة القصة وتغليب الانطباعية والذاتية على العقلانية والموضوعية. في هذا السياق؛ الصورة ركن الإعلام الأعظم.
في صور “مطبخ حلميش”، سؤال البداهة يقفز هنا بصخب.. لماذا هذا الاستدعاء! كما هو معتاد في إعلام الآخر، لم يتم نشر أي صورة لأي من القتلى الاسرائيليين. هل عمر العبد في الصورة غارق في دمائه أم في دماء قتلاه! في ثقافة الصورة الاجتياحية، لا وقت للتفحص، الادرينالين والجموح والنمطية المعتادة، أسياد الموقف، والى حين التحقق، يكون المراد قد تحقق واقعاً، تماماً كما يحصل الآن.
في معركة الصورة، إن لم تستطع أن تظهر في الصورة بطلاً، فاحرص على إظهار غيرك بوضعية لا يُحسد عليها.