لم يكن في خلد من وضع العقيدة الأمنية الإسرائيلية، أن يتم اللجوء إلى تراجع عن مكتسبات العلوم التقنية الحديثة في مجال التخطيط العسكري والتسلح الآخذ بالتطور، دولة نووية تعتبر من أقوى دول العالم في مجال السلاح وتصنيعه تضطر إلى الأخذ بالأساليب التقليدية وهي تتدارس كيفية الحيلولة ودون خسارة حرب قادمة، ولعلّ إحدى أهم المفارقات وربما غير المنطقية العودة بالوسائل القتالية إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى بكثير، هذا ما يجري الآن من سباق بين سلاحي المقاومة في قطاع غزة، وإسرائيل صاحبة الإنجازات الصناعية العسكرية الكبرى، حيث اضطرت مؤخراً، وربما قبل ذلك بكثير إلى «إقامة القلاع» على حدودها لدرء ضربات المقاومة التي بدورها تصنع الصواريخ التقليدية التي لا يمكن ردها بالوسائل الحديثة، كما دلت الحروب العدوانية الإسرائيلية السابقة على القطاع، كما لجأت الدولة العبرية إلى الأسوار والحوائط والأنفاق، وهي كلها من وسائل الحرب التقليدية ما قبل الحرب العالمية الأولى، الأمر الذي أدى إلى مفهوم جديد للتوازن العسكري والدفاعي، ولعلّ العائق تحت الأرضي والعلوي الذي تقيمه إسرائيل على تخوم قطاع غزة المثال الأوضح على هذا الأمر.
أدركت الدولة العبرية عَبر تجربتها العدوانية المستمرة على قطاع غزة، أن سلاحها النوعي المتقدم، لم تعد له فائدة في المواجهة مع حماس في غزة ومع حزب الله في لبنان، كما أدركت ـ وهنا مفارقة ثانية ـ أنها لا تستطيع تصدير وسائلها التقليدية التي أعدتها للحرب في قطاع غزة ولبنان إلى أية دولة أخرى، ذلك أن ليس هناك من حروب مشابهة في كل القارات وبين مختلف القوى المتحاربة في العالم كله، من الصحيح أن إسرائيل ومن خلال هذه الحروب العدوانية، قد قامت بتجريب أسلحتها الحديثة المعدة للتصدير، إلاّ أن أهم «اختراعاتها» لمواجهة حرب تقليدية، لا تجدي نفعاً خارج اطار حروبها في فلسطين ولبنان، وستظل أسلحتها التقليدية المخترعة في المخازن بلا زبائن.
من «القبة الحديدية» إلى «العائق الجديد» كلها سلسلة من الاختراعات الإسرائيلية الموقوفة على الصراع في فلسطين وربما لبنان، وعودة إلى حروب تقليدية من نوع جديد، تزيد من «النزعة الانعزالية» للكيان الإسرائيلي، الذي بات يعيش داخل معزلٍ من الأسلاك الشائكة والجدران والعوائق التقليدية، وكأننا في عصر المنجنيق وأبراج القلاع والخنادق المائية، وكأننا نشاهد فيلماً عن حروب القرون الوسطى في زمن الأسلحة الذكية، هذه الأسلحة التي فقدت ذكاءها مقابل إبداعات المقاتل الفلسطيني التي تحددها الإمكانيات وظروف توازن قوى لم يعد فيها للأسلحة الحديثة دور كبير إلاّ بقدرٍ محدود، يهدف إلى التدمير وليس بالضرورة الى الانتصار في الحرب.
في آذار الماضي، وإثر نشر تقرير مراقب الدولة حول الحرب الإسرائيلية الثالثة على قطاع غزة، دار الحديث في الأوساط السياسية والأمنية الإسرائيلية حول ضعف قدرة الردع الإسرائيلية، الأمر الذي يجب معه عدم دفع الجنود الإسرائيليين إلى الحرب دون توفير قوة ردع يمكن معها تحقيق انتصار ناجز وواضح.. المشكلة حسب تقديرات رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية «امان» أن ليس هناك «وقت للردع» مع ذلك فإن رئيس الأركان «ايزنكوت» عكف على إعداد سلسلة تصورات استراتيجية لبناء قوة الردع اللازمة إزاء التهديدات من الجنوب والشمال بأسرع وقت ممكن.. هذه الأقوال التي تمت ترجمتها إلى إنشاء عوائق فوق وتحت الأرض على الحدود مع قطاع غزة، تشير بوضوح إلى أن إسرائيل ماضية بلا كلل أو ملل في الإعداد لحرب قادمة حتى مع تصريحات كبار قادتها من أنها ـ إسرائيل ـ كما حركة حماس، ليستا معنيتين بمثل هذه الحرب في الوقت الراهن على الأقل.
في ظل ميزان القوى الراهن، وحسب المفاهيم الجديدة للحرب في منطقتنا، بات مفهوم التفوق العسكري هو غير ما هو متعارف عليه في أبحاث العلوم العسكرية والعقائد الأمنية المختلفة، ولعلّ المستوى الأمني العسكري في إسرائيل، بات أكثر تفهماً لهذه المفاهيم المستجدة، الأمر الذي خلق نزاعاً مكتوماً بات معلناً، بين وزير الحرب الإسرائيلي ليبرمان، وقياداته العسكرية حول الحرب على قطاع غزة، فالأول ما زال متمسكاً بالمفاهيم السائدة، بينما الطرف الآخر، أكثر تفهماً للمعايير الجديدة التي فرضتها طبيعة حرب من نوعٍ مختلف، فرضت على الدولة العبرية وضع نفسها في معزل صنعته بنفسها وهي تحاول أن تفرض هذا المعزل على الآخرين، تحاصر نفسها بينما تعتقد أنها تحاصر غيرها!
مفهوم الوطن والشعب لدى مشعل: «الخسائر التكتيكية»
09 أكتوبر 2024