قبل عشرين ألف عام، كان البشر عبارة عن مجموعات هائمة في البراري تبحث عن طعامها، ولا تتقن شيئاً سوى صنع أدواتها من الحجر، وتعقُّب قطعان الحيوانات، إلى جانب تنويعات فنية بدائية تمثلت في رسوم لحيوانات في أعماق الكهوف، تدل على نزعة طوطمية.
وقد أجبرت قسوة البيئة وشح الموارد الإنسان الأول أن ينوع مصادر غذائه، فتعلّم فنون الصيد، ولما كان الإنسان بلا مخالب وبلا قرون وبلا أنياب، وجلده رقيقا، لا تغطيه فروة أو حراشف، وسرعته بطيئة بالمقارنة مع سرعة المفترسات، وقوته البدنية أقل بكثير منها، فقد دفعه ذلك للاعتماد على سر قوته الذي مكّنه من التعايش مع الوحوش ثم التفوق عليها، والانتقال من مرحلة الرميّة إلى الصيد: إنه ذكاؤه، الذي تطور في تلك المراحل على نحو لافت.
كان تطور ذكاء الإنسان ضرورة اقتضتها متطلبات التكيف مع توالي فصول البرد والحر، ومن أجل تأمين بقائه في عالم لا يرحم، ما دعاه إلى أن يوظفه بدايةً في الصيد، ولأن الصيد يتطلب التخطيط والتعاون الاجتماعي، صار حتميا أن تنشأ اللغة، ومن ثم النظام الاجتماعي.
وقبل اثني عشر ألف عام، وبعد انتهاء عصور الجليد، بدأت هذه المجموعات بالدخول في طور الحضارة، إذْ اهتدت للزراعة وتدجين الحيوانات الأليفة، وصار ممكنا بل ضروريا لهذا الإنسان أن يستقر.
ظهر حينها نوع من القمح في منطقة أريحا على ضفاف نهر الأردن، التي عرف سكانها كيفية حصاده وطحنه قبل أن يعرفوا سر زراعته.
وكان هذا إيذانا بتدشين عصر الثورة الزراعية، وقد وجَد حينها كل من النبات والإنسان ضالته في الآخر.
وإذا كانت الزراعة سبباً لاستقرار الإنسان، ومن ثم سبباً لتنازع المُلكية ونشوء مناطق النفوذ، فإن تدجين الحيوانات وامتطاءها ما هو إلا رمز لسيادته على بقية الكائنات، ولكن الزراعة واستئناس الحيوانات سيتطلبان بالضرورة ابتكار بعض الأدوات كالمعول والمنجل والسرج، أي بعبارة أخرى، قادت الزراعة إلى أولى الخطوات نحو الثورة الصناعية.
في تلك المراحل المبكرة، لم يكن الإنسان يعرف الملكية، بل كان يعيش نوعاً من التضامن والمشاعية البدائية؛ فلم يكن بمقدور الفرد مواجهة قسوة البيئة وحده، وبسبب ضآلة الإنتاج وبساطته، لم يكن هناك استغلال لعمل الآخرين وجهدهم، لأن العمل كان كله موجهاً نحو تلبية الحاجات الضرورية المباشرة.
في أعقاب تلك المرحلة نشأ نمط معيشي عُرف بأسلوب الإنتاج الآسيوي، أفضى إلى نشوء نظام الرق، ولكن الانتقال من المشاعية إلى العبودية تم بشكل متدرج وبطيء. فالانتقال من عصر لآخر لا يتم دفعة واحدة، أو على شكل قفزات، لأن العصور تتوالد من بعضها، وحركة التاريخ تسير في اتجاه لولبي صاعد، وكل مرحلة تاريخية تحمل في أحشائها سمات المرحلة القادمة، وحتمية قدومها.
وكانت نقطة التحول من المشاعية إلى العبودية، هي تقدم القوى الإنتاجية إلى الحد الذي لا يعود الإنسان ينتج فيه من أجل تلبية حاجاته المباشرة، بل أصبح إنتاجه فائضاً عن حاجته الخاصة، وكان هذا الفائض بداية التقسيم الطبقي بين البشر، ونشوء الاختلاف والتمايز بينهم، وتعمُّق الفروقات بين الغني والفقير، والقوي والضعيف، وكان هذا التمييز بداية استغلال الإنسان للإنسان.
ولم يتخذ هذا الاستغلال شكل الرق في جميع الأحوال، إذْ اختبر العالم القديم نظما اقتصادية متقدمة بنيت على أساس سلطة استبدادية مطلقة، تميزت فيها طبقة الحكام والكهنة عن عامة الشعب، ولكنها لم تتخذ من عامة الشعب عبيداً بالمعنى الصريح. وفي ظل هذه النظم ازدهرت حضارات مهمة وعظيمة، مثل الحضارة المصرية القديمة.
أما النموذج الصارخ للعبودية، فقد مثلته اليونان القديمة، فعندما اتّسع نطاق الحروب، أصبح الأسرى المهزومون يُجلبون إلى البلاد لكي يُستعان بهم في الأعمال المنـزلية في بداية الأمر، واكتسبوا بالتدريج صفة الرقيق الذي يتحكم سيده، لا في عمله فحسب، بل في شخصه أيضاً، وأصبح لهذه الصفة أساس قانوني ينظم العلاقة بين العبد وسيده.
وللمفارقة، فقد شكّل نشوء العبودية خطوة لمصلحة العبيد، إذْ تحوَّلوا من أسرى يجري قتلهم، إلى طبقة باقية على قيد الحياة، ولم تكن العملية مجرد عطف وإحسان، بل كانت لمصلحة الإنتاج.
كان الإنتاج في مرحلة المشاعية البدائية شحيحاً، ولذلك لم يكن بإمكان الجماعة المنتصرة أن تُبقي على حياة من تأسرهم وتطعمهم وتؤويهم، فكان قتلهم الحل الأسهل، ولكن تطور الإنتاج في الصيد والزراعة، وتدجين الحيوانات أصبح كافيا لمعيشة الجماعة، ولإعالة أناس لا يمارسون العمل، الكهنة مثلا. وهنا ظهرت إمكانية الاستفادة من هؤلاء الأسرى، عوضاً عن قتلهم.
وبسبب نضالات العبيد ومحاولاتهم للحصول على بعض حقوقهم ظهرت حركات تمرد عديدة، ولكي يستطيع الأسياد الإبقاء على إخضاعهم للعبيد واستغلالهم، كان عليهم أن يجدوا الأدوات اللازمة لذلك؛ فكان نظام الدولة أحد هذه الوسائل وأهمها؛ فالدولة آنذاك كان هدفها الرئيس المحافظة على نظام العبودية، وقد أفضت ثورات العبيد في نهاية المطاف إلى نشوء المجتمع الإقطاعي، الذي حول العبيد إلى فلاحين، يعملون في الأرض ويخدمون صاحبها مقابل أكلهم وإيوائهم والسماح لهم بالتكاثر.
وقد مثل التحول من العبودية إلى الإقطاع خطوة أخرى في مسلسل التقدم الإنساني. فمن كون الإنسان عبدا وحسب، أصبح إنسانا بمعنى ما، وكان الإقطاع أحيانا أرحم من العصر الرأسمالي، لأنه كان يمنح الناس قدرا من الأمن والحماية على الأقل.
ولم تكن القوى المنتجة في مرحلة الإقطاع تختلف كثيرا عنها في نظام العبودية، كذلك فإن شكل الإنتاج لم يطرأ عليه تغير أساسي، إذ ظل في أساسه زراعيا، فضلا عن أن حجمه كان محدودا.
وما ساهم في اتساع نظام الإقطاع وتعاظم نفوذه، كثرة الحروب التي أوجدت فئة العسكريين المحترفين، ولأن الملوك لم يكن لديهم ما يكفي من المال لمكافأة القادة العسكريين، صاروا يمنحونهم قطعاً من الأراضي جزاء لهم على حسن بلائهم في المعارك.
كما ساهم رجال الدين بدورهم في إكمال صورة العصر الإقطاعي، فنشروا بين العامة قيم الزهد، وصوروا حياة الإنسان على الأرض بأنها مرحلة مؤقتة، وأن عليهم انتظار الآخرة التي سيجدون فيها تعويضاً عن شقائهم في الدنيا.