وأنت تطير سيدي من الجبال الشرقية، عابرا قواعد الجبال ثم البرية فالغور، فالنهر الخالد، إلى الغور نفسه، والبرية النظير، فالجبال الغربية، وصولا إلى الساحل فالبحر، فإبحار في التاريخ، وإبحار في الفكر، ستجد مولاي كيف أن الجغرافيا هنا أكثر عبقرية حتى من التاريخ والأدب.
ولعل عبقرية عائلتك النبيلة هي قبس من نور القدس؛ كما هي قبس من نور مكة، وما يدريك سيدي لعل هذا قدر، ولعل الله يختار من يشاء ليهبه وليمتحنه.
تلك هي العروبة والإسلام وكل ما هو نبيل وإنساني سيدي.
شكرا لك سيدي، وانت تؤكد على الرسالة، التي تنبع منها الرسائل، رسائلك القوية والواضحة والحازمة على خطى آبائك وأجدادك. ولعل الشاعر سعيد عقل قد كفانا القول حين هتف يوما:
أردن أرض العزم أغنية الظبى نبت السيوف وحد سيفك ما نبا
في حجم بعض الورد إلا إنه لك شوكة ردت إلى الشرق الصـبا
فأن تحمرّ عينك أيها الملك العربي، فإن ذلك سيعني الكثير لعلاقات القوة في هذه الأرض، فليست للقوة معنى واحد، هناك كثير من المعاني التي -وإن يغض الغازي عينه عنها- ستكون هي الحاسمة.
لزيارة جلالتك ما قبلها وما بعدها، أعلاها همة هو دعم شعبنا الوفيّ، وألا يحسبنّ أحد بعيدا كان أو قريبا، أن بيده وحده مفاتيح الحرب والسلام، وأن الأصل هو الارض المحتلة والشعب، باقي الأمور تفاصيل سياسية وإدارية ليست بيت القصيد. وأه آن الأوان لإنصاف فلسطين، ولا بد من إعادة إطلاق مفاوضات جادة وفاعلة، وليتحمل الأشقاء والدول الكبرى مسؤولياتهم.
تلك مواقف ثابتة لجلالتك، بما تحمل من صفات نبيلة، على رأسها الأخلاق والمصداقية، وأنت رئيس القمة العربية، وراعي المقدسات في القدس الشريف.
من هنا، فإننا ننشد شراكة كاملة سيدي، كما ننشد خلاصا واحد، فمصيرنا حول ضفتي النهر واحد، فلعلّ التنسيق السياسي يكون كما ينبغي أن يكون، وكما يجب أن يكون محبة وتعاونا.
هنا يا سيدي كانت تجربة الوحدة على ضفتي النهر الخالد، كأجمل ما تكون الوحدة، تلك التي أعادت الامور الى اصولها الشامية العربية؛ لعلنا نعيدها يا جلالة الملك باختيارنا، فحتى ولو كنا في الطريق نحو التحرر، فلا شيء يمنع العمل المشترك، نقوى بكم شرق النهر، فتأمل تاريخنا السياسي في الثمانينات يعني الكثير إن اخترنا الشراكة الكاملة التي تنبع من اختياراتنا معا.
واليوم وأنت تحط كنسر عروبيّ على أرض رام الله، لا نخالك سيدي إلا منتظرا أن تحط هناك، في القدس، لتستأنف خطواتك حينما كنت أميرا، طفلا عربيا جميلا يتأمل جمال المساجد والكنائس، المآذن والقباب والأجراس، تملأ رئتيك برائحة القدس في سوق العطارين، ورائحة البخور المقدسة في مسجد قبة الصخرة وكنيسة القيامة.
ولأنك ابن نبيل لعائلة نبيلة، فستختار سيديّ أن تحمل الهمّ والاهتمام:
"لأجلك يا مدينة الصلاة اصلي
لاجلك يا بهية المساكن يا زهرة المدائن
يا قدس يا مدينة الصلاة أصلي
عيوننا إليك ترحل كل يوم
تدور في أروقة المعابد
تعانق الكنائس القديمة
وتمسح الحزن عن المساجد"
بانتظارك مرقد الحسين بن علي الأول، ملك العرب، ومكان استشهاد الملك عبد الله الأول، فهنا نادى الحسين الأمير الفتى على الملك الجد المؤسس: جداه يا جداه عندما اغتالته اليد الآثمة.
هنا كان يسعد الملك الراحل الحسين بن طلال بزيارته وإقامته، لعله كان يراها العاصمة الأولى؛ حيث شهدنا أن روحه ظلت معلقة حتى آخر لقاء له بالدنيا.
هنا انشطر المكان ظلما، وهنا احتل ما تبقى، تاركا شعبا بأكمله في حزن وألم، والمأساة الكبرى أن ذلك يستمر بمصاحبة آلام كثيرة وكبيرة، حيث يعاني شعبنا والمقدسيون بشكل خاص، حتى لكأن أبسط متطلبات الحياة تصير رفاهية، فهنا سيدي يصبح امتلاك بيت أمرا من عظائم الأمور، فكل المدن كبرت ما عدا القدس أريد لها أن تصغر، وأن تتمدد المستوطنات حولها تخنقها:
"الطفل في المغارة وأمه مريم وجهان يبكيان
يبكيان لأجل من تشردوا
لأجل أطفال بلا منازل
لأجل من دافع وأستشهد في المداخل
واستشهد السلام في وطن السلام
وسقط العدل على المداخل"
نعم سيدي صاحب الجلالة، هنا استشهد السلام في وطن المفروض أنه بلد السلام؛ وستظل القدس مقياس السلام، فلا يظن أحد أنه سيكون هناك سلام بدونها، وستظل الكراهية في تزايد، فإن أراد العالم الحب، فطريقه سهلة: إنهاء الاحتلال.
"حين هوت مدينة القدس
تراجع الحب وفي قلوب الدنيا أستوطنت الحرب"
طوال عمرنا ونحن هنا نحتمل أصناف الألم، ننشد الخلاص، والصبر مفتاح الفرج، لم يقصّر المقدسيون في احتضان مسجد الجامع الأقصى، لكن العلاقات الدولية، ومنطق القوة، وحال الأشقاء الذي تعرفه سيدي، يجعل التدي مضاعفا، ولكن لكل شعور حدود، لقد ضاق ابناؤك وبناتك بكل هذا، فما كان منهم إلا أن غضبوا، ولهم أن يغضبوا:
"الغضب الساطع آتٍ
وأنا كلي ايمان
الغضب الساطع آتٍ سأمر على الأحزان
الغضب الساطع آتٍ بجياد الرهبة آتٍ
وسيهزم وجه القوة سيهزم وجه القوة"
هل مرّ قرن؟!
وهل تأملنا كيف كانت الأرض؟
وكيف أن مياه النهر العذبة القادمة من الشمال لم تغيّر ملوحة البحيرة القديمة؟
هل تأملنا الغور على جانبيه؟ وهل دققنا في البريتين؟ وهل لمسنا سلسلتي الجبال شرقا وغربا؟
لو فعلنا ذلك، إذن نكون قد ارتقينا للمعنى السامي!
"لن يقفل باب مدينتنا فأنا ذاهبة لأصلي
سأدق على الأبواب وسأفتحها الأبواب
وستغسل يا نهر الأردن وجهي بمياه قدسية
وستمحو يا نهر الأردن أثار القدم الهمجية
من النافذة العلوية لعلك تلقي السلام على القدس، ففي عينيك سيدي ملايين العيون العربية:
البيت لنا والقدس لنا
وبأيدينا سنعيد بهاء القدس
بايدينا للقدس سلام
للقدس سلام آت
للقدس سلام آتٍ آتٍ آتٍ آتٍ
وأخيرا سيدي صاحب الجلالة، فإننا نطمح ونطمع أن تساهم في رأب الصدع بين الأشقاء، فالمتنازعين هنا يثقون بجلالتك.
نلتقي في القدس الحرة
الاقتباسات من أغنية زهرة المدائن هي أغنية للسيدة فيروز من تأليف وتلحين الأخوين رحباني قامت بإصدارها بعد حرب 1967.