شفيق التلولي : غزة 2014.. تأملات ويوميات شاعر في المدينة الرهينة

 شفيق التلولي : غزة 2014.. تأملات ويوميات شاعر في المدينة الرهينة
حجم الخط

ذات مساء تموزيّ وبينما حِمَم الحرب الاسرائيلية الثالثة المستعرة تصب قنابلها من كل فج وميل وتلمع ألسنة لهبها المشتعلة في سماء غزة؛ قفزتُ إلى شُرفتي الغربية بعد انفجار عنيف هَزّ الحيّ ورَجّ البيوت كلها، رأيتُ أعمدة الدخان تتصاعد حيث مسكن صديقي الشاعر سليم النفار، وغبارٌ كثيف صار يحجب الرؤية؛ أمسكتُ بهاتفي متصلاً به.

كنتُ أحسب بأنني عبثاً أهاتفه؛ سيما وأن هذا القصف العنيف من قبل الطائرات الاسرائيلية قد يكون دمر مسكنه، لكنني سُررتُ عندما أجاب على الهاتف، كان يلهث ويدمدم كمن يتكلم سرياني، ثم تمالك نفسه قليلاً؛ ليخبرني بأن هذا القصف أتى على البناء الذي يقابلهم، وأنهم نزلوا إلى الشارع في حالة من الرعب والهلع وتحسباً من غارة أخرى.

اليوم كان لي شرف الإهداء الأول لكتاب الشاعر سليم النفار "غزة 2014 تأملات ويوميات شاعر في حال المدينة الرهينة" الكتاب الذي انسكبت حروفه من جرح الرصاص المصبوب وأعمدة السحاب التي أمطرت غزة موتاً وأوسعتها تقتيلا؛ فوضع خلاصة ما رآه وعايشه وتأمله بين دفتين من وجع الجرف الصامد الذي فشل في جرف غزة واقتلاعها؛ ليخرجه في أبهى صور اشتباك ذاته الشاعرة المطرزة بخيطان الألم، المطلة من شرفات الأمل على بحرين أو ثلاث بحار، بحر هنا في غزة الملتهبة مسقط الرأس وبحر هناك حيث يافا الأصل وآخر لذكريات طفولة وشباب؛ متروكة على شواطئ لاذقية العرب.

الكتاب أدبي بامتياز ذي دلالات واعية جاءت في متون النصوص، إذ خلا من الأسلوب التقريري؛ فابتعد عن الثرثرة معتمداً على سوق الأحداث بثوب فني مكثف؛ ليأتي محمولاً على لغة شعرية شفيفة؛ استخدمها في نسق متماهي بين السرد والنثر والشعر الموزون أحياناً والذي تخلل النصوص عند عتبات لازمة؛ حتى ظننتُ بأنني تارة أقرأ رواية وأخرى أقرأ نثراً وما بينهما من نصوص شعرية وظفت ببراعة الشاعر الكاتب أو الكاتب الشاعر.

وفي خضم هذا الاحتراب العنيف والدائر في جنبات غزة لم يترك المشهد دونما توصيف الأشياء وتفصيلاتها انطلاقاً من صدقية وأمانة الكاتب بما لا يمس قدسية الشعب الفلسطيني ونضالاته ومقاومته؛ فرسم الحالة الوطنية المتشظية وارتهان غزة بعدما بات يتقاذفها المتخاصمون، وما تعانيه من سيف الجلاد المزدوج سيف الغول الاسرائيلي وسيف الانقلاب بما أنتجه من انقسام وظلام وتردي وهجيج.

لم يوصد باب الأمل والحب والتمني والرجاء، وأبقى باب الحدائق مشرعاً للورود البيضاء واِن تضمخت بدماء الشهداء، لكن بتلاتها ما زالت تنبت وستنبت من جديد، فمهما جرحت الأشواك الأيادي ستتسلل من السياج تحرس ورد الشهداء وتستعيد نصف البرتقالة.

لسنا وحدنا يا سليم فنحن والنار هنا؛ لكننا سننتصر نحن وستهزم النار.

هنيئا للصديق الشاعر سليم النفار بهذا المولود الأدبي الرائع والجميل الصادر مؤخراً عن مكتبة كل شيء الحيفاوي