في أواخر عصر الإقطاع طرأ تحول جوهري على شكل الإنتاج، إذ لم تعد الزراعة هي المصدر الأساسي لثروة المجتمع، وحلت محلها الصناعة، وظهرت فئة الصنّاع كطبقة منتجة مستقلة، والتي يمكن اعتبارها مرحلة وسطى بين الاقتصاد الإقطاعي (الزراعي)، وبين المرحلة الصناعية المكتملة في العصر الحديث. هذه الطبقة لم تكن قد انفصلت تماما عن الواقع الذي تنتج فيه ومن أجله، بل كانت ولا تزال لها صلات قوية بإنتاجها وبالأغراض التي تنتج من أجلها. والفرق الآخر بين الإقطاع والرأسمالية، أن الأخيرة سمحت بخلق فئة الرأسماليين الذين ملكوا وسائل الإنتاج، وحققوا ثرواتهم ومكانتهم الاجتماعية بجهودهم الشخصية، أو من الفرص المتاحة، خلافا لبرجوازية عصر الإقطاع الذين امتلكوا ثرواتهم ومكانتهم بالوراثة.
وإذا كانت التجارة قد عُرفت منذ أبعد العصور، إلا أن دورها في هذا العصر كان متميزا؛ فقد أصبح التاجر يعتمد على نوع جديد من الثروة، لم يكن يعرفه العصر الإقطاعي، الذي كانت ملكية الأرض فيه هي الشكل الوحيد للثروة، إنه رأس المال التجاري، الذي اكتسب أهمية فعّالة في شراء المواد والأدوات اللازمة للإنتاج، ولتخزين المنتجات، فضلا عن أهميته في الائتمان والمعاملات المصرفية، وهكذا صارت النقود هي القوة الاقتصادية، وصارت وسيلة لتخزين الثروة، ومقياساً للقيمة.
مع حلول القرن السادس عشر، بدأت المجتمعات الأوروبية تتخلص من السيادة المطلقة لنظام الإقطاع، وقد تم تسديد الضربة القاضية للإقطاع في عهد الثورة الصناعية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، وفي عهد الثورة الفرنسية على المستوى السياسي.
وبدأت الرأسمالية في عهدها الأول، تشق طريقها بفضل روح المغامرة والاكتشاف، وكانت الأعمال الاقتصادية الناشئة في ذلك العهد تسعى إلى تحقيق أكبر قدر من إشباع الحاجات الاستهلاكية للإنسان. أما عندما اكتملت خصائص الرأسمالية فقد انعدمت روح المغامرة، وأصبح رأس المال «جبانا»، وتحولت المنافسة التي كانت من أبرز سماتها في البداية إلى احتكار يعمل على تخفيف حدة التنافس وتنظيمه لصالح أصحاب الأعمال وضد مصالح المستهلكين. وبدلا من أن تعمل الرأسمالية على إشباع الحاجات الحقيقية للإنسان، أخذت تخلق لديه عادات زائفة، لا هدف لها سوى فتح أبواب جديدة للربح، ولكن على حساب الاستخدام الرشيد لموارد المجتمع. أي باختصار صارت رأسمالية متوحشة.
وهكذا أنجبت الرأسمالية مذاهبها الأخلاقية الخاصة، مثل المنفعة والبرغماتية. وهذان المذهبان كانا تعبيرا عن الطابع العملي لعصر التصنيع، وعن نوع من الأخلاق يقوم بحساب كل فعل تبعاً لمقدار المنفعة المترتبة عليه، ولمدى نجاحه العملي، بغض النظر عن قيمته. وصارت هذه القيم تعبيرا عن أشد نزعات المجتمع الرأسمالي تطرفاً. وكانت «المكيافيلية» هي التعبير عن أخلاق العصر الرأسمالي «المتوحش»، وعن القيم العقلية السائدة فيه، والتي جعلت من كل نشاط إنساني (بما في ذلك القيم والمبادئ) مجرد سلعة تنطبق عليها قوانين السوق.
وأصبحت الغاية هي ازدهار الأعمال وزيادة الأرباح، لا تلبية الحاجات، وصار مستحيلا أن يصل صاحب العمل إلى نقطة يمكن أن يتوقف عندها ويقول: كفى.
وفي المجتمع الذي لا تحكمه غاية سوى تحقيق الأرباح؛ يصبح الاغتراب من أبرز سماته، والاغتراب هو فقدان العنصر الإنساني في المعاملات الرأسمالية، وهو ناجم عن المنافسة الحامية التي تسود الاقتصاد الرأسمالي، يباعد ما بين البشر، وينشر بينهم العداوة والبغضاء، ويجرد الروح الإنسانية في المعاملات التجارية.
وحتى لو أراد الرأسمالي أن يكون إنسانياً في معاملاته، فإنه لا يملك ذلك، لأن قوانين المنافسة هي التي تملي عليه طريقة معاملته للعمال، وهي التي تحدد طبيعة علاقاته مع منافسيه. فهو ليس حرا؛ بل إن هناك ما يشبه القدر الذي لا يرحم، والضرورة المحتومة التي تتحكم في تصرفاته. ذلك لأن رأس المال، يختنق إذا لم يتوسع، والتوسع يقتضي عمل حساب قوانين المنافسة. وأيضا فإن المستهلك بدوره سيغدو مغتربا عن نفسه في المجتمع الرأسمالي؛ لأن هذا النظام يخلق له حاجات زائفة.
وطالما تغنّى النظام الرأسمالي بالحرية، ولكن سرعان ما تكشّف وجه هذه الحرية الحقيقي، فإذا بها عبودية لمعظم طبقات المجتمع. عبودية ناجمة عن استغلال الطبقات لبعضها، وعن صراع الفرد مع المجتمع، عبودية اقتضتها ظروف الفقر والبطالة والعجز لدى الفئات المسحوقة والمهمشة، وظروف وقوانين العمل التي أُعدت خصيصاً لصالح المنتجين.
وكل ما تدعيه الرأسمالية من حريات هو في حقيقته مقيد، فحرية الصحافة الرأسمالية في جوهرها مقيدة، بسبب اعتمادها على الإعلان. وهذا ينطبق بشكل ما على النقابات والاتحادات والمنظمات المحلية، التي تحكمها صراعات مراكز القوى وتوازناتها وعلاقاتها مع مراكز صنع القرار وأصحاب النفوذ. وعلى حرية تكوين الأحزاب، لذلك فإن الأحزاب في الدول الرأسمالية أشبه ما تكون بلعبة مسلية بين الحكومة والمعارضة، تتغير فيها الوجوه، دون تغيير حقيقي في السياسة ذاتها.
لا ننكر أن الحضارة الرأسمالية أحرزت انتصارات ومكاسب لم تتوصل إليها أية حضارة سابقة؛ فقد سيطرت على العالم المادي كمّاً وكيفاً، وسخّرت الطبيعة لخدمة الإنسان، ووفرت للناس سلعاً وخدمات شتى، وكافحت الأمراض والكوارث الطبيعية بكفاءة، وأبدعت روائع الفن والأدب، وأحرزت تقدماً هائلاً في العلوم والتكنولوجيا. وعلى الرغم من هذا النجاح، فقد كانت هناك نقطة ضعف كبرى للنظام الرأسمالي، هي ارتباطه الوثيق بالجريمة، وبالحرب؛ وهما عنصران أساسيان في صميم بنائها وتركيبها الباطن.
وهكذا، وبعد أن عانت البشرية كثيراً من مثالب الرأسمالية وأزماتها، اجترحت الاشتراكية نظاماً بديلاً، ليس بوصفها منقذة للبشرية وحسب، بل وأيضاً باعتبارها المرحلة الحتمية اللاحقة للرأسمالية، وقد حاولت النظم الاشتراكية بناء نموذجها الهادف إلى نقل المجتمع الإنساني إلى مرحلة جديدة يتخلص فيها من نقائص الرأسمالية، وكانت نقطة البدء في التفكير الاشتراكي محاولة استرداد القيم الإنسانية التي أهدرها النظام الرأسمالي. ولكن بؤس التطبيق في معاقل الأنظمة الاشتراكية، والأخطاء القاتلة التي ارتكبها زعماؤها أدى إلى فشل التجربة وموتها، وفي أعقاب ذلك دشنت البشرية عصراً جديداً، إن كان بحد ذاته امتداداً للرأسمالية، إلا أنه يختلف عنها في بعض جوانبه، إنه عصر العولمة.