ما كتبه الناقد الكبير وليد ابو بكر عن رواية "وارث الشواهد "

ما كتبه الناقد الكبير وليد ابو بكر عن رواية "وارث الشواهد "
حجم الخط

ليست الهوية الوطنية رداء يمكن استبداله

- معظم الأقلام التي تكاثرت في كتابة الرواية في فلسطين بعد أوسلو، زائدة عن الحاجة، لأنها لا تملك الموهبة، ولا المعرفة، ولا اللغة، من ناحية، ولأنها لا تتعامل مع الكتابة باحترام، فبينها من يتخذ الكتابة سلما لأمور أخرى، كطريق نحو الشهرة الزائفة مثلا، أو كحلية اجتماعية؛ وبينها من يرى فيها انتهاكا لعرف، دون مبرر فني، كما أنها ــ في بعض الحالات ــ تهدف إلى تبرئة الذات من ذاكرة قديمة يصعب الاغتسال منها.

وليد الشرفا، أستاذ الإعلام والدراسات الثقافية في جامعة بيرزيت، (الذي يعرف جيّدا أن من العيب البيّن وضع درجته العلمية على كتاب إبداعي)، من الأسماء القليلة التي يمكن الرهان عليها في كتابة هذا الفن الأدبي، بجدية واحترام، ومن خلال موقف تهدف الكتابة إلى التعبير عنه، ودون مغريات ذاتية، رغم أن "وارث الشواهد" [الأهلية للنشر والتوزيع، عمان، 2017] هي روايته الثانية، بعد رواية "القادم من القيامة"، التي نشرها مركز أوغاريت الثقافي في رام الله، ثم صدرت طبعة منها عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2013.

تدخل مقولة الرواية الجديدة في النطاق الذي اختاره الكاتب، في التعامل مع الواقع الفلسطينيّ، من زاوية نقدية تتسم بالصدق، وقد تصل إلى حدود قصوى في الاختيار والعرض، دون التخلي عن الإحساس الدائم بأهمية الانتماء إلى الوطن. والمقولة عميقة، لا مجرّد شعار من كلام؛ كما أنها، من وجهة نظر الكاتب، يجب أن تكون ملزمة لأبناء الوطن جميعا، حتى وإن غيبتهم بعض الظروف المغرية أو الضاغطة، أو اختاروا أن يغيّبوا أنفسهم، ما يجعل الروايتين تعيدان إلى الأذهان ــ بشكل متجدّد ــ تلك المقولة التي حملتها قصة "فلسطيني"، أشهر قصص سميرة عزام، التي قالت مرة واحدة، لابن وطنها وعنه، في كل مكان وزمان، وبكل وضوح: لا أنت ولا غيرك يمكنه أن يزيّف هويتك، أو يمكِّنك من الهروب منها.

كانت محاولة الهروب في الرواية الأولى عن طريق الهجرة، بعد النتائج غير السويّة للانتفاضة الأولى. والمحاولة لم تستطع أن تحقق أهدافها، فلا هي ألغت هوية المهاجر الطوعي، ولا أعادته خالصا إلى هويته.

المحاولة في الرواية الحالية أكثر تركيبا، ففيها شيء من الهجرة غير الطوعية، أو هجرة الهروب من الموت، التي يقف وراءها خوف امرأة لاجئة من فقدان ابنها الوحيد، بعد أن جربت الفقدان كثيرا، بعد أن هجّرت من قريتها، واستشهد زوجها؛ كما أن فيها شيئا من هجرة ذاتية مؤقتة بحثا عن مستقبل أفضل، قام بها طبيب يكاد يتقبل الاحتلال القديم، ويتناسى قضيته، وينسجم ــ إلى حدّ ما ــ مع ما تطمح إليه طبيعة هذا الاحتلال، مع أنه من مدينة الناصرة، التي حافظت على عروبتها رغم الزمن، واستمرّ أهلها في النضال ضدّ ما جرّه عليهم الاحتلال من ظلم وتمييز، منذ لحظته الأولى.

في بلاد الهجرة أو الاغتراب، يلتقي الوحيد المتميز في دراسته للتاريخ، بالطبيب الذي يزداد علما، عند لحظة حاسمة تكشف عاطفة يصعب إخفاؤها، ما يولّد بينهما أواصر صداقة تكون لها آثارها العميقة في المستقبل، لأنها تكاد ــ في البداية ــ تجمع نقيضين، وإن كانا ينتميان إلى قضية واحدة: فالوحيد، هجّرت عائلته من قرية "عين حوض" الكرملية قبل أن يولد، وعانى من استشهاد والده على أيدي الاحتلال وهو طفل، وتشرّب حبّ البلاد التي لا يعرفها من ارتباط جده ــ الذي أشرف على تربيته ــ بها، حتى لحظة رحيله، فأصبح يعرف بيت العائلة القديم دون أن يراه. أما الطبيب الذي بقي في البلاد، فوجد نفسه دارسا وعاملا وسط الذين احتلوا بلاده، وساير الوضع، وسايرته زوجته أكثر، فبدا لهما أنهما جزء من مجتمع جديد، ينسيهما أي رابطة تاريخية تقع خارجه، لدرجة أنه يبدو قبل تحوّله، أو عودة وعيه، حائرا وهو يقول ضاحكا: "والله ما أنا عارف، أنا هون والا هون؟" ـ ص 46.

تحولات جادة

العلاقة في الغربة كانت حميمة، خلقت نوعا من التلاحم بين الطرفين، ومن تبادل الرأي أيضا، فأنعشت ذاكرة الطبيب، وبدأ يستعيد ما غاب عنه، أو غيّبه بنفسه (رغم خلفية تعاطفه مع قومه مما يقوم به الاحتلال)، ليكتشف بالتدريج أن وهما هو الذي يرضى به، وأن الواقع الذي ينغمس فيه ليس سوى احتلال بألوان أخرى، أبرزها أنه مطالب بالتخلي عن هويته، أو عن أصوله، والانتماء إلى المحتل، ثقافة ولغة وخضوعا، حتى ينال رضاه، إذا استطاع إلى ذلك سبيلا.

التحولات في الرواية تولد من لحظات صادمة. لحظة الموت الحقيقي لممثل على خشبة المسرح هي التي لفتت نظر الطبيب إلى الوحيد، ابن لغته، ونسجت في الوقت نفسه علاقة حبّ بين مخرجة المسرحية والمشاهد غريب اللغة، الذي انفعل علنا خلال عرضها فأثار دهشتها، ودخلت كطرف آخر في القضية، يريد أن يتعرف، ومن خلال ذلك سوف تحدث في هذا الطرف أيضا تحولات عميقة عندما يتفهم ما وراء الانفعال.

نغمة الرواية الأساسية والمستمرة تشير إلى أن الأرض باقية لأصحابها، وأن الاحتلال، مهما تنوعت محاولاته، لن يدوم. الشخصيات الأساسية التي يرتبط الوحيد بها (جدّه ووالده الشهيد ووالدته) يعيش الإيمان بهذه النغمة في دمها بالوراثة. الجد، مثلا، عمد إلى بناء بيت في نابلس، شبيه ببيته في عين حوض، التي هوّدها الاحتلال، وغيّر شواهد بيوتها بعد أن حولها إلى "عين هود"، وخصصها للفنانين، وقد فعل ذلك حتى لا ينسى بيته، وحتى ينقل مجمل ذاكرته إلى حفيده، ليعرف البيت بمجرّد أن يراه. أما الشخصيات الأخرى، التي عرفها الوحيد خلال غربته، فهي التي طالتها التحوّلات عندما فتحت أعينها على الواقع. كان الطبيب أول هذه الشخصيات، وأكثرها تحوّلا، ثم كانت المخرجة المسرحية الحبيبة / الزوجة بعد ذلك، ثم الابنة التي ولدت في الغربة، وأخيرا كانت ابنة الطبيب التي تبشر عبر شخصيتها بجيل مختلف، جيل منتصب القامة، يعرف أن له حقوقا في أرضه، ربما أكثر مما عرف من سبقوه، لأن الهوية تورث، كما تورث شواهد البيوت.

التحولات تتوالى وفق الحدود القصوى في الرواية: حين يمرض الجد، يعود الوحيد من غربته على الفور، يكون تحوّل بسيط قد لحق بالطبيب الذي عاد قبل فترة، ففتح عينيه، وأخذ يرى زيف ما كان يظنه أمرا مفروغا منه. لذلك يتوسط لجدّ صديقه كي يعالج حيث يعمل، مطمئنا الوحيد إلى أن أطباء عربا هم الذين سيعالجونه. كما أنه يحصل على تصريح لصديقه كي يرافق جده، الذي يرحل، ويزفّ بملابسه الريفية التقليدية وهو ينقل إلى مثواه في نابلس، بعد أن يمرّ بقريته المهوّدة، وبباب بيته الذي يلاحظ الحفيد أن شاهده تغير.

عودة الوحيد إلى القرية نهارا هي التي فجرت اللحظة القصوى الأخيرة: لقد عرف بيت جده وكأنه عاش فيه، ورأى أشجاره التي تمتد عروقها في التاريخ، وحين حاول أن يرى البيت من الداخل، رفض من يحتله أن يسمح له بالدخول. اشتدّ غضب الوحيد من التناقض الذي يواجهه: المحتل صاحب بيت، بعد أن أزال شاهده، وهو فنان يدعو إلى المحبة والسلام، ومع ذلك فإن صاحب البيت من وجهة نظره، كفنان وإنسان، غريب، يجب أن يمنع من الدخول، وفي ذلك نموذج للتناقض الذي تقوم عليه كل دعاوى الاحتلال.

حين يتجمع الحزن والغضب، فإن الانفجار يحتاج إلى شرارة. جاءت الشرارة في بيت الخلاء، حين رأى الوحيد شاهِدَ بيت جده ــ الذي درجت ذاكرته أن تقدّسه ــ داخل القذارة، فحاول أن ينقذه وأن ينظّفه، وتحولت المحاولة إلى انفجار، وإلى اعتداء، ودفاع عن النفس، وانتهت به في السجن، بتهمة القتل، ثم امتدت إلى الطبيب نفسه، الذي صار مطلوبا منه أن يثبت أنه لم يكن شريكا في الجريمة، لأن الشكّ يحوم حوله، بسبب كونه عربيا.

بعد أن صار تحوّل الطبيب أعمق، وصار سؤال العدالة لديه أهم من سؤال المحبة الذي كان يتبناه، انطلاقا من قاعدة دينية، ملأ جدران بيته بصور لأشهر شهداء قومه، ما جعل ضيوف زوجته في عيد ميلادها، الذي تعتبره تقليدا لجمع الأصدقاء والهدايا، ينفضون من حوله بسرعة.

تأمل ووعي

لا تأتي التحولات في الرواية بشكل عفوي، وإنما نتيجة تأمل يدرك صاحبه أنه يقوم من خلاله بنقض الرواية الإسرائيلية، وتوضيح زيفها، بشكل علمي، لا في تساؤله "كيف للأسطورة أن تصبح عرقا؟" ـ ص 76 وحسب، وإنما من معرفة واسعة بالتاريخ والأساطير والثقافات الدينية، والمنطق الإنساني أيضا، ما يجعل الأفكار تتداخل مع الأحداث بشكل عضوي، كثيرا ما تفتقر إليه "حكايات" الرواية العربية. وبذلك يكون وليد الشرفا قد طوع ثقافته المعرفية الواسعة لتكون جزءا من حجته في كشف الاختلاق الذي يقوم عليه الاحتلال من أساسه.

يقوم بناء الرواية على تعدد في الأصوات، فالوحيد هو الذي يروي حكايته، من وجهة نظره، لتشكل مادة الحكاية الأساسية، بينما تأتي بقية الأصوات لتحليل ما حدث، مما كان سببا في التحولات التي تصيب بقية الشخصيات.

الطبيب، الذي فجع بما آلت إليه الأمور بسرعة، ودون منطق، سوى منطق الأفكار المسبقة الذي يحكم سلوك الاحتلال، يبذل الجهد كتابة كي يشخص الحالة، من خلال دراستها كطبيب، فيزداد اقتناعا بأن ما كان يتعايش معه ليس سوى وهم، ويتعرف إلى كل خلل حاول أن يسبغ عليه من قبل صورة المحبة الربانية، كما تعلمها من دينه. ولأنه يكشف الزيف، أو يكتشفه ويعلنه، تكون التهمة الموجهة إليه جاهزة، كي يلتحق بصديقه.

والمرأة التي أحبت الوحيد، وتزوجته وأنجبت منه، تؤكد في شهادتها، التي ترجمها الطبيب كما شاءت، أن زوجها إنساني، عقلاني، مثقف، ومحبّ، ولا يمكن أن يكون قاتلا. وتنتقل العدوى بعد ذلك إلى ابنة الطبيب، التي تلجأ إلى حضن والدة الوحيد، وإلى ابنة الوحيد، التي تنتظر أن يعود والدها، تماما كما انتظر هو ــ طفلا ــ والده أن يعود.

ما يمكن أن يقال عن تعدد الأصوات هو أن فروق تعددها لم تكن واضحة، ما يصيب بعض المقاطع بنوع من الارتباك، بالرغم من جهد الكاتب في أن يختلف كل صوت عن سابقه، انطلاقا من تعدد الشخصيات. لقد جعل شهادة الوحيد تستند إلى التاريخ بشكل متقن، ثم حاول أن يجعل شهادة الطبيب علمية إلى ما، وشهادة الزوجة بطابع مسرحي، والبنت تتصرف ببراءة تجاه ما تلاحظه، لكن اللغة عاندت في كثير من الأوقات، فبدت متشابهة، وكأن السارد لا يتغير.

كما أن هذا التعدّد في الأصوات أوقع الرواية في غير قليل من التكرار، دون ضرورة، خصوصا في الحديث عن الماضي الذي يتعلق بالبيت والشجرة العتيقة، وكثير من الذكريات المرتبطة بذلك، دون أن يكون هناك تغيير في الصورة المنقولة، يوحي ــ مثلا ــ بتغير وجهة النظر.

لكن السؤال الأساسي الذي يمكن أن يطرح حول الرواية، سيكون متعلقا بالطبيب، ابن الناصرة، المسيحي، (وإلى جانبه زوجته): فهل مثل هذه الشخصية، كما قدّمتها الرواية، في أفكارها الأولى، وعلاقاتها، يمكن أن تعتبر شخصية تمثيلية لهذه الفئة من الفلسطينيين؟ في الواقع أن ذلك لا يبدو موضوعيا، وإنما هو خيار انتقائي، أقرب إلى التجريد منه إلى الواقع، الذي اتسمت به معظم الشخصيات الأخرى، ذلك لأن الوعي ــ بالتعليم أساسا، وبالمعاناة من ممارسات الاحتلال ــ يكون، في غالبيته التي تصلح للتمثيل، أو النمذجة، مقاوما غير مهادن، وأن الاحتلال غير قادر على أن يخفي عوراته الكثيرة الواضحة، ليخدع من يملك مثل هذا الوعي.

وليد الشرفا فعلها ثانية؛ كتب رواية جادة وناقدة وحادة، تنطلق من أمرين أساسيين في كتابة الرواية: الأول هو الوعي بالتحوّلات التي تجري في المجتمع، وتتبع قوانينها بشكل علمي، وربطها بالجذور التي جاءت منها، والثاني هو سرد الوقائع بطريقة تغري القارئ، أسلوبا وفكرة إيجابية منبثة كل الوقت.