يدور في الساحة الفلسطينية «نقاش» حول عقد دورة المجلس الوطني القادمة، وحول طبيعة هذه الدورة، وإلى أي درجة يمكن أن تكون «مؤهّلة» لانطلاق عمليات جادة من إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني في ظل المأزق الوطني القائم منذ سنوات عدة وطويلة.
السؤال الذي يلحّ على المجتمع السياسي في فلسطين ليس مبدأ عقد الدورة من عدمه، وليس درجة التمثيل الديمقراطي في عضوية المجلس (على أهميتها الحاسمة)، وليس حتى على مكان عقد هذه الدورة (وهذه، أيضاً ليست مسألة فنية أو شكلية) وإنما على مدى قدرة هذه الدورة على إخراج حالة الانقسام من مرحلة المراوحة التي دامت لسنوات طويلة، ومن مرحلة تعمّق الحالة الانقسامية وتمفصلها في كينونات مُمَأسسة باتت لها مصالح «مستقلة» خاصة بها وما بات لها أيضاً من آليات دفع ذاتية نحو تعزيز هذا الانقسام، بل وربما الذهاب بعيداً في مشروع الانفصال التام عن الجسد الوطني الفلسطيني كله تحت حجج وذرائع واهية وخاوية ومتهاوية.
أغلب الظن أن حالة الانقسام المؤسسي ستنقل النقاش الخاص بها إلى أسئلة المرحلة وأسئلة النظام السياسي، وأسئلة المخارج الممكنة من الأزمة التي يمرّ بها هذا النظام، ليس بهدف الوصول إلى حلول أو توافقات وإنما بهدف عرقلة هذه الحلول ومنع أي نوع جاد من هذه التفاهمات.
الأمر الأهم هنا هو الكيفية التي من خلالها نضمن لأنفسنا عقد هذه الدورة بحضور الغالبية الساحقة من الأعضاء وبأعلى درجة ممكنة ومتاحة من التمثيل السياسي الوطني، وخصوصاً حركتي «حماس» و»الجهاد الإسلامي».
إذا تمكنا من توفير هذين العاملين فإن الفرص ستصبح كبيرةً لإعادة بناء النظام السياسي، أما إذا لم نتمكن من ذلك فإن حالة الانقسام ستبدأ بالتهام اللحم الحيّ من الجسد الوطني، وربما نكون أمام حالة انفصال غير معلنة رسمياً في المراحل الأولى وصولاً إلى الإعلان عنها لاحقاً.
إذا أصبحت قضية عقد المجلس هي النظام السياسي والخروج من الأزمة الراهنة سيعقد المجلس وسينجح في الوصول إلى الهدف، أما إذا تحول عقد المؤتمر إلى الحصص وإلى ولاء الأعضاء القدامى والجدد أو طبيعة التمثيل وما سيؤشر عليه أو غير ذلك من القضايا التي يمكن أن تتصدر المشهد السياسي وتتحول «بقدرة قادر» إلى الموضوعات الرئيسية أو الموضوع الوحيد، فإن الحالة الفلسطينية تتجه بسرعة إلى منزلقات قد تكون أكبر وأخطر من كل المنزلقات التي ألمّت بالساحة الوطنية، بل وربما نكون أمام أزمة وطنية محدقة بنا وبمشروعنا الوطني.. بل من المؤكد أن الأمر يتعلق «بفرصة» تاريخية لإسرائيل ومن يقف من خلفها وإلى جانبها لتصفية حقوق الشعب الفلسطيني وتدمير الأهداف الوطنية التي ننشدها.
ليس مهماً أن يؤجل عقد المجلس أسبوعاً أو اثنين، بل لو حتى وصلت الأمور إلى عدة أسابيع، إذا كان الهدف هو الوصول إلى توافق وطني حقيقي وليس إلى تكريس نظام الفيتو في الساحة الوطنية.
وليس مهماً إن استطاع المجلس حل المشكلات الكبيرة في الحالة الوطنية، المهم في هذه المرحلة أن يوقف مسار الانفصال وأن يعيد الثقة والشرعية بالمؤسسات الوطنية، وأن يضع أمام الشعب الفلسطيني أفقاً للخروج من هذه الأزمة، وأن يضع الآليات الكفيلة بالتعامل مع كل مشكلات العمل الوطني بروح ديمقراطية وتوافقية ووطنية مسؤولة.
دعونا في هذه الظروف الدقيقة من المطالبات «بالكمال»، ودعونا من كل الأحلام الوردية بالخروج من المأزق الوطني بسهولة وبيسر وسلاسة.
دعونا من النظر إلى الحلول الممكنة وكأنها الحلول الناجعة والسحرية والتي هي وحدها ستخرجنا من المأزق. كل هذا غير صحيح وغير دقيق وغير ممكن.
الممكن الحقيقي هو الوصول إلى تفاهم يُنهي حالة الانقسام أو يضع الطريق واضحة نحو هذا الهدف،
أن نمهّد الطريق أمام إعادة البناء للنظام السياسي على أسس وطنية أولاً وديمقراطية ثانياً، وعلى أسس توافقية بالقدر المتاح عندما لا تكون الأسس الديمقراطية في متناول اليد.
والمهم قبل كل ذلك أن تنتهي مرةً وإلى الأبد أية حقوق متخيَّلة لنظام الفيتو في الحياة السياسية الفلسطينية، قد لا نواجه مشكلة كبيرة حول أسس المسألة الديمقراطية في النظام السياسي.
ذلك أن أموراً من هذا النوع موجودة في الأدب السياسي، وموجودة في العرف الوطني والتقاليد الفلسطينية على هذا الصعيد.
وقد يحتاج الأمر إلى بعض الجهود الاستثنائية للوصول إلى قواسم مشتركة حول «أسس التوافق» وآليات الاحتكام إليه في الظروف المعينة.
أما الصعوبة الحقيقية فهي أسس البرنامج الوطني.
البرنامج الوطني يشتمل على الرؤى والاستراتيجيات وعلى آليات العمل الداخلي وعلى وسائل الكفاح الوطني، والأهم قبل كل ذلك على آلية الاحتكام إلى هذه المقومات من البرنامج.
أين يحق لنا الاختلاف معها، وبأية وسائل وأين يجب علينا الالتزام التام بها دون مواربة؟
ما أعتقده أن هذه المسألة بالذات إذا لم يتمكن المجلس الوطني من بناء مداميكها الأساسية، فإن الخروج من الأزمة الوطنية لن يكون سهلاً ولا متاحاً في أغلب الظن.
الاتفاق على هوامش الاختلاف من زاوية كيفية تنظيم الاختلاف عليها يوازي في الواقع كاملَ المساحة الخاصة بالاتفاق على المسائل الكبيرة.