المنطق كان يفترض أن تسارع الإدارة الأميركية، حين ظهرت فجأة الأزمة بين الجانبين الفلسطيني وإلى حد ما الأردني، مع الجانب الإسرائيلي، قبل شهر حول الأقصى، إلى استثمار الفرصة، لتنطلق من حقيقة أن الواقع محتقن جداً، وأنه قابل للانفجار في أي لحظة، بما يجعل ليس فقط من المناطق الفلسطينية المحتلة، بل من فلسطين وإسرائيل وربما الشرق الأوسط كله شعلة نار، لا أحد يمكنه أن يسيطر عليها من جهة، ومن جهة أخرى، لا أحد يمكنه أن يتوقع دائرة الحريق وإن كانت ستقتصر على الشرق الأوسط فحسب أم لا، وذلك لسبب بسيط وهو أن الحرب ستأخذ منحنى دينياً، بين أتباع ديانتين.
لكن واشنطن أظهرت سذاجة بعيدة المدى، فهي حين تدخلت أظهرت قدراً كبيراً من الانحياز إلى جانب قرارات إسرائيلية غبية، لم يكن أمام الحكومة الإسرائيلية إلا أن تتراجع عنها، وأن تخرج واشنطن «بسواد الوجه»، فيما الموقف الأميركي سمح لإسرائيل بأن تظهر قدراً مبالغاً فيه من التبجح، الذي أثار حفيظة الشعب الأردني، حين استقبل رئيس حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو قاتل المواطنَيْن الأردنيَّيْن كما لو كان يستقبل بطلاً قومياً!
لو كانت إدارة دونالد ترامب ذات تجربة وحنكة وذكاء سياسي لسارعت فور اندلاع حالة التوتر بعد اتخاذ الحكومة الإسرائيلية مباشرة قرارها بإقامة البوابات الإلكترونية على مداخل الحرم القدسي الشريف إلى دعوة كل من الرئيس محمود عباس ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو إلى واشنطن فوراً، وأجبرتهما على إطلاق المفاوضات المتوقفة بينهما منذ سنين، بدافع ومبرر أن الحالة محتقنة ولا تحتمل المزيد من التسويف أو التجاهل، لكن سذاجة الإدارة الجمهورية التي لا تعرف طبيعة المنطقة ولا مكانة المسجد الأقصى عند الفلسطينيين وجميع المسلمين جعلتها تظن أن دعوة الأطراف إلى الهدوء، بعد إقامة بوابات النار، تكفي حتى يمر قرار أو موقف بهذا الحجم، الذي يشبه الخط الدقيق بين الجنة والنار.
وكان يمكن لواشنطن أن تعلم أن المواقف السياسية ليست أقوالاً وحسب، وهي وزعت أقوالها يميناً لهذا الطرف وشمالاً لذاك، ويمكن هنا أن نشير إلى أنها كانت أعلنت أن حائط البراق إنما هو حق إسلامي خالص، ولا حق لليهود ولا بأي شكل فيه، مما كان يمنحها قوة في اتخاذ موقف مبكر كان يمكنه أن يقول لنتنياهو: توقف، ولا تنفذ قرارك بإقامة البوابات الإلكترونية، لكنها بموقفها ذلك وبتفويت الفرصة، عملياً أغلقت أبواب التفاوض قبل أن تفتحها!
في الحقيقة وحتى لا نتفاجأ أو نحمل الأمور أحلاماً أو أوهاماً أكثر مما تحتمل، يبدو أننا نحن الذين فهمنا إدارة ترامب بشكل خاطئ، وظننا أنه يمكن أن يعيد ذكرى رونالد ريغان أو حتى خليفته جورج بوش الأب، وبعضاً من ألق الرؤساء الجمهوريين، وبالتحديد صورة بوش الأب حين أجبر إسحق شامير على الذهاب مرغماً إلى مدريد، ما فتح الباب الخلفي لحزب العمل لإجراء المفاوضات من تحت الطاولة التي أدت إلى أوسلو ومن ثم فوزه في انتخابات العام 1992.
يبدو أن رغبتنا الجامحة وتعلقنا بحبل المفاوضات الواهي هو الذي جعلنا نقرأ ترامب خطأ، وأن نرى في هبته الساخنة التي أطلقها سابقاً دليل إصرار على إطلاق المفاوضات والتوصل للحل، فالرجل جاء إلى المنطقة، وأحضر معه عائلته، قبل ثلاثة أشهر، من أجل أن يحصل على ما يريد بالضبط من الشرق الأوسط، وعاد إلى واشنطن متبجحاً، ومعه «رأس كليب» بنحو 400 مليار دولار استثمارات، أما غير ذلك فهو ليس معنياً بالتفاصيل الصغيرة التي تجلب له صداعاً بالرأس، فماذا يعنيه أن تتوقف الحرب في سورية أو تستمر، أو أن يستمر الصراع في اليمن أو يهدأ، وما الذي يجبره على أن يدخل في علاقة اشتباك أو توتر مع أصدقائه في إسرائيل وهو المحاط باليهود المتعصبين، بمن فيهم صهره وابنته، من أجل خاطر عيون الفلسطينيين أو حتى من أجل هدف إستراتيجي بتحقيق السلام والأمن والاستقرار في المنطقة، وهو كل ما كان يعنيه طوال حياته أن يجمع الثروة من تجارة العقارات، وأن يبقى في البيت الأبيض ثمانية أعوام قادمة؟!
من أجل أن تظهر واشنطن وجود اهتمام لا يبدو أنه أكثر من عادي، فإن جولة الوفد الأميركي إلى المنطقة ستتضمن لقاء الطرف الفلسطيني، لكن يلاحظ أن إدارة ترامب أولاً وضعت العملية التفاوضية الفلسطينية / الإسرائيلية ضمن دائرة اهتمامات البيت الأبيض، وليس وزارة الخارجية كما كان الحال دائماً في السابق، بما لا يلزم الحكومة الأميركية بضرورة التقدم بالملف أو أن يكون مناسبة لمحاسبة الخارجية على إنجازها من عدمه، فيما المبعوث الخاص أو مستشار البيت الأبيض، في حال نجحا في إنجاز شيء سيسجل لهما على أنه اختراق، يؤهلهما لتسلّم مهمات أعلى، وفي حال لم يحققا شيئاً فإن أحداً لن يسألهما أو يحاسبهما لأنهما لم يكلفا بإنجاز مهمة محددة أو برنامج محدد.
كذلك فإن إدارة ترامب حتى اللحظة وبعد مضي سبعة أشهر على تسلمها مقاليد الحكم والمسؤولية لم تصدر ولا حتى إعلاناً واحداً تقول فيه: إنها ملتزمة بحل الدولتين أو أنها مخلصة للمواقف الأميركية السابقة تجاه طرفي الصراع في المنطقة. ما يسمح لهذه الإدارة بأن تتحرر من كل المواقف السابقة، بل وحتى من عبء كون الولايات المتحدة كانت بمثابة الراعي الوحيد للمفاوضات بين الطرفين، وإن رفع يدها عن الملف يعني أن يبقى إلى لحظة الانفجار القادمة معلقاً في الهواء، دون أن يحملها أحد مسؤولية الدماء التي سترهق في المستقبل أو الخراب أو اتساع دائرة التوتر، خاصة وأن ترامب شخصياً لا يبدو مهتماً بأن يظهر كرجل سلام عالمي، بل بالعكس يذهب بعيداً في إدارة التوتر مع كوريا الشمالية، غير عابئ باحتمال حدوث حرب عالمية نووية، لذا فمن الطبيعي ألا يهتم ولا بأي شكل بملف معقد، هو ملف الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي.