بين حادثة رفح وحفل تخريج القدس المفتوحة

د.عاطف أبو سيف.jpg
حجم الخط

حادثتان وقعتا الأسبوع الماضي تستحقان التوقف والتأمل والمراجعة. الأولى في رفح حين قام عنصر من "داعش" بتفجير نفسه في موقع لـ"حماس" والثاني في حفل تخريج طلاب القدس المفتوحة في غزة حين لم يقف ممثلو الكتلة الإسلامية (المحسوبة على "حماس") للسلام الوطني. ولا أظن أن عواقب وخلفيات الحادثتين منفصلتان كثيراً، وحجم الإدانة لهما يجب ألا يكون بسيطاً ولا يفاضل بين جرم وآخر، لأن ثقافة التطرف والتعصب وازدراء مشاعر الآخرين لا يمكن تجزئتها، وهي كل متكامل، يقود جزؤه إلى كله، ويكشف كله فسيفساء تفاصيله. وعليه فثمة حاجة ماسة للوقوف بعمق على دلالات ما يجري والبحث عن الثقافة السوداء التي تقف خلفه لتشابهها وتكاملها.
بداية، ليس لنا إلا أن نأمل أن ما جرى في رفح حادث عابر لن يتكرر، وأنه ليس إلا احتكاكا مؤسفا. لكن أي بشاعة حين يقوم إنسان بتفجير نفسه في الآخرين ليس لشيء إلا لاختلافه معهم ولافتراقه عن حكمهم. من المشين أن يصل بنا الحال إلى ذلك الحد. وبالتالي فإنه لا يجب بأي حال التساهل مع من يقف وراء ذلك حتى تتم حماية المجتمع من عواقب هذه الأهوال. وبالقدر نفسه لابد من اجتثاث التطرف ومفاعيله وتطهير المجتمع من الآفات والتعصب الفكري اللذين يقودان إليه ويعززانه. فمن المؤكد على مستوى الفكرة فإن ما حدث لم يكن عابراً. فثمة من كان لديه ربما قرار وربما فتوى وربما كان جاهزاً لتنفيذها. ولم يكن حادث الإيقاف عند الحاجز الأمني إلا التوقيت المناسب لتنفيذ عملية التفجير. الخطورة تكمن في أن ثمة من هو جاهز لفعل ذلك. والخطورة الأكبر أن ثمة آخرين جاهزون أيضاً ربما لفعل ذلك وربما كانوا مسلحين بالعقيدة والأفكار والمعتقدات والتبريرات التي تحميهم من وخز الضمير. هل يختلفون كثيراً عن هؤلاء الذين لم يأبهوا لتاريخ ودم الشهداء وعذابات الأسرى حين لم يقفوا للسلام الوطني بل إنهم لم يأبهوا لمشاعر الحاضرين من زملائهم الطلبة وأساتذتهم وممثلي القوى السياسية. ربما كانوا مثلهم جاهزين لديهم فتوى وأفكار مسبقة وتبريرات وتفسيرات تجعل جلوسهم ليس إلا صورة أخرى من تفجير الوعي الانتحاري على اختلاف النتائج. في المقابل تقف قيادة حركته للسلام الوطني وتحترمه.
أي استخفاف بحياة الناس هذا من جهة وأي استخفاف بوعي وتاريخ الناس من جهة أخرى. المؤكد أن استباحة دماء الناس وقتلهم وتفجير نفسك بهم ليس من الدين بشيء ولا من الإيمان بشيء ولا من الوطن بشيء. تذكروا الإرهاب لا دين له ولا هوية سياسية له وهو جسم هلامي يتغذى على المعتقدات المشوهة والحقد والاستفراد والقهر واستعباد الناس وتضييق مساحات الحرية وعدم مشاركة الناس في القرار. هذه الظروف والسياقات تشكل ولائم دسمة للإرهاب يعيش عليها. وحين نعيش في سياقات كهذا فإن الإرهاب ينمو ويكبر بين ظهرانينا. ونحن نعيشها منذ الانقلاب والأحداث المأساوية التي تمت قبل أكثر من عقد من الزمن حين تم سحل الشهداء في الشوارع وحين تمت استباحة حرمة المؤسسات وتفجير المواقع وتفكيك الوطن أو الجزء المتاح منه وتدمير الممكن من الدولة المستقبلية.
والأكثر حزناً أننا بعد عشر سنوات مازلنا عاجزين عن تحقيق المصالحة، عاجزين عن القفز عن مصالحنا المتورمة، عاجزين عن القول إننا أخطأنا. لا يعيب الشعوب أن تتقاتل فيما بينها ولا أن تختلف، فتاريخ البشرية وخبرات السياسة تكشف لنا أن الاقتتال الداخلي جزء من بناء الهوية الجامعة والحروب الأهلية مكون أساس في مراحل تطور الإجماع الوطني: الحرب الأميركية، الفرنسية البريطانية الإيطالية وغيرها. لكننا نصر رغم ذلك على أن خلافنا ليس من اجل الوصول إلى الشيء الجامع، بل هو نقطة انطلاق البحث عن المزيد من الفرقة. ألم تصبح الحوارات الوطنية أكثر تعقيداً من عملية السلام.
وبالقدر الذي يجب فيه اجتثاث التطرف والقائمين عليه يجب محاربة الوعي الزائف والخرافات السياسية والحقد الأسود ويجب محاسبة هؤلاء الطلبة الذين لم يقفوا للسلام الوطني. كان من المحزن أن إدارة الجامعة لم تقم بطردهم لحظتها من الحفل كما لم يقم أي من ممثلي الحركة الوطنية – وكان هناك حضور من خلية "فتح" الأولى وهيئة منظمة التحرير الأولى - وكان هؤلاء الطلاب يقفون مثلهم في الصف الأول. هل هذه هي الثقافة التي تشيعها جامعاتنا! هل هذا ما يتعلمونه. كان مشهداً خارجاً على ثقافتنا الوطنية.
ما أرمي إليه أنه لا يمكن أن يصلبنا الحال أن نستهزئ بمشاعر شهدائنا، ولا بنضالات شعبنا. السلام الوطني ليس نوتة موسيقية، ولا كلمات شاعر مرهف، ولا هو فرقة تحيي حفلاً، ولا ترف ترفيهي زائد، هو ليس ما يمثله من بطولة وفداء ولا احتفال بالوطن، وهو ليس وقتاً مستقطعاً في الاحتفالات الوطنية، إنه القيمة التي ترتبط بوعينا الوطني، بذاتنا وهويتنا، بارتباطنا بالأرض والاستعداد للقتال من أجلها، إنه هذا الأنزيم الذي جرى في عروق آلاف الفدائيين قبل أن يندفعوا لتنفيذ عملياتهم البطولة وهم يتسللون ويعبرون الحدود، إنه نشيد الخلود وحلم العودة. ومن لا يفهم ذلك فإنه خارج سياق التطور الطبيعي للوطنية الفلسطينية. تماماً مثل من هو مستعد لتفجير نفسه لأنه يعتقد أن الآخرين كفار وهو المؤمن الحقيقي.
مرة أخرى، الخطر يكمن في ثقافة الإقصاء والنبذ واحتكار الله والدين والوطنية واحتكار العيب والحلال والحرام. ثقافة أشمل من مجرد الحدثين المؤسفين اللذين وقعا نهاية الأسبوع على ما اشتملا عليه من تجرؤ فاضح على ثقافة شعبنا ونضالاته وحرمة دمائه ووعيه. لأننا يجب أن نكون صريحين فنحن ضد الوعي الزائف وضد الوعي المسموم والملوث الذي يقف خلف الحدثين. وعليه فيجب الوقوف عميقاً.
ما بقي هو ضرورة التذكير بأن الممر الإجباري – حتى لو لم تحب "حماس" - هو المصالحة الوطنية الحقيقية والرد بإيجابية على تصورات القيادة الفلسطينية وعدم البحث عن قنوات جانبية لتغطية عجز مادي عبر دولارات النفط. الحق بين والباطل بين وما بينهما برزخ لا يلتقيان. فقط عبر إنهاء مسلسل الانقسام يمكن أن تتوحد الجهود لمحاربة التطرف بكل أشكاله.